لم تمض دقائق على انهاء الامين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله حديثه عن عملية "يوم الاربعين" يوم الاحد الفائت، حتى عمد كل شخص الى الادلاء بقراءته الخاصة لهذا الكلام. المؤيدون اعتبروه خطاب الانتصار على "وقاحة" الاسرائيليين في العملية التي استهدفت الضاحية الجنوبية وادت الى اغتيال القيادي في الحزب محسن شكر، والمعارضون وصفوه بأنه خطاب التراجع والاعتراف بالخسارة امام تفوّق اسرائيل الاستخباراتي والنفسي. اما الغالبية من الواقعيين فلم يكونوا معنيين بأي من الوجهتين، لانّ همهم كان معرفة وتوقع ما ستشهده الايام المقبلة من تطورات، ليعمدوا الى تسيير حياتهم اليومية.

وكان لا بد من التوقف عند قراءة موضوعية لهذا الخطاب، واستشراف ما تضمّنه بشكل مباشر ومبطّن، عبر اللجوء الى شخصية دبلوماسية "عتيقة" تتابع كل الاحداث والتطورات بعناية وتعطي انطباعاتها المبنيّة على المنطق والاحداث المتسارعة، وقد كانت من اوائل الذين اشاروا الى عدم توقعهم حصول حرب شاملة في حين كان الجميع يؤكد ويحدد مواعيد اشتعال هذه الحرب، ويبشّر بالجحيم العسكري الآتي. ووفق قراءة هذه الشخصية نفسها، فإن الهدف الذي ادى الى تحديد هذا الخطاب، هو اعطاء دفعة ايجابية للقاعدة والمؤيدين للحزب عبر:

1-التأكيد على ان الرد اتى وان كل الضغوط التي مورست على الحزب وعلى ايران، لم تؤتِ ثمارها، بغض النظر عما اذا كان هذا الرد على قدر التوقعات التي وضعها الكثيرون ام لا. وهذا يعزز مصداقية نصر الله لجهة ان ما يقوله ينفذه ولو بعد فترة.

2-عند كشفه الاستراتيجية التي اتّبعها الحزب لجهة اطلاق عدد كبير من الصواريخ لاشغال القبة الحديدية، وافساح المجال امام المسيّرات لتصل الى اهدافها من دون اعتراض، انما اراد بذلك اظهار نوع من التفوق التكتيكي على الاسرائيليين، وهو يعلم تمام العلم ان الكشف عن ذلك لن يغّير في المعادلة، لان القبة الحديدية ستتحرك تلقائياً لاعتراض الصواريخ حين تطلق، ولا يمكن تخطّي هذه الخطوة لان خسائرها ستكون فادحة. وعليه، يبقى الاعتماد على الجهوزيّة الاميركية والاوروبية لحماية اسرائيل، ولكن ماذا سيحدث عندما لا يكون هؤلاء في حال تأهب؟.

3-وضع نصر الله حداً لكل الكلام عن توسيع الحرب والرد، والرد على الرد، وشدد على ان الامور عادت الى طبيعتها ويمكن للبلد ان يتنفس، واول البوادر كانت عودة حركة الطيران الى طبيعتها بعد تعليقها. وهذا دليل آخر على ان الحزب لاعب اساسي على الطاولة ولا يكتفي فقط بردود الافعال.

4-لم يكن هناك من شك ان الخطاب نفّس الاحتقان الكبير الذي كان سائداً، ولم يكن نصر الله مقنعاً حين تحدث عن امكان الردّ بعد وقت لاحق، لان كل المعطيات والمؤشرات تفيد بأن الردّ انتهى وليس هناك من حلقة ثانية لهذا المسلسل، ولم يكن هناك من لزوم للتهديد بهجوم آخر الا من باب الحرب النفسية، لكنها هذه المرة لم تفعل فعلها.

5-ان فصل رد الحزب عن رد ايران، انما يعني ان وضع غزة لا ينطبق على ايران، وبالتالي لا ربط بين الجبهة على الحدود اللبنانية والمناوشات الحاصلة مع ايران، على عكس الربط القائم بين الحزب وغزة. وبالتالي، من المتوقع انه عند حصول الرد الايراني، لن يكون هناك من تأجيج للوضع على الحدود الجنوبية للبنان.

6-ان غياب الفيديوهات من قبل الحزب والاسرائيليين على حد سواء، للضربات التي حصلت يوم الاحد الفائت، يعني ان الطرفين راضيين عما آلت اليه الامور، فكل واحد اعلن تفوّقه على الآخر، وليس هناك من دليل عكس ذلك، وهذا يمكن وضعه ايضاً ضمن خانة السير في ابقاء الاوضاع على حالها وعدم الجنوح نحو التصعيد غير المحسوب.

7-اراد حزب الله اظهار ان لا مشكلة لديه في العودة الى ما كانت عليه الامور قبل عملية طوفان الاقصى، في حال نجاح العملية الدبلوماسية، وان العائق الوحيد امام هذه التسوية هو رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وانه قادر على التأقلم مع بعض الطلبات لانجاح التسويات والاتفاقات التي من الممكن ان تحصل.

8-تراجع الحزب عن معادلة العين بالعين والمدني بمدني، اذ سقط خلال العلمية الاسرائيلية مدنيون، فيما حرص نصر الله على التشديد خلال خطابه على تحييد الحزب للمدنيين والبنى التحتية الاسرائيلية في عملية الرد، وهي نقطة ضعف للحزب، ولكن لا بد منها لاعفاء لبنان من تدمير اضافي لان القدرة الجوية الاسرائيلية باستطاعتها الايذاء اكثر من قدرة الصواريخ، وهي عملية نسبية تم الحديث عنها سابقاً ولا تصب في مصلحة الحزب ولا لبنان.

9-قد يبدو رد الحزب "متواضعاً"، ولكنه بالنسبة الى نصر الله خطة ناجحة لعدم تحقيق هدف نتنياهو توسيع رقعة الحرب والانتقال الى مواجهات اقليمية، خصوصاً وان الايرانيين غير متحمسين لهذا السيناريو ويعملون منذ نحو سنة على منعه بشتى السبل، مع الابقاء على عملية التفاوض مع الاميركيين قائمة وناجحة بوساطة عُمانية.