كثيرة هي الأيقونات التي يظهر فيها القدّيس يوحنّا المعمدان ومتنوّعة، وذلك لأربعة ألقاب يحملها يوحنّا، بالإضافة إلى أحداث مرتبطة به وأعياده الستّة في السنة.
ألقابه أربعة وهي: أوّلًا السّابق أي السّابق للمسيح، بمعنى أنّه أتى قبل المسيح يهيّئ الطريق أمامه. ثانيًا الصّابغ أي الذي عمّد الربّ، والصفة تأتي مِن فعل صبغَ أي غطَسَ، وهي إشارة إلى موت المسيح وقيامته مِن بين الأموات. ودائمًا نذكّر بأنّه مات بطبيعته البشريّة فقط وقام بقوّة طبيعته الإلهيّة. ثالثًا ملاك الصحراء، ارتباطًا بنبؤة ملاخي النبيّ (ق 5 ق م): "هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ"( ملاخي 1:3). رابعًا خاتمة الأنبياء، فبعده أتى المخلّص الربّ يسوع المسيح الذي تحقّقت فيه النبؤات كلّها وتمّ كلّ شيء. وقد حذّرنا الربّ مِن الأنبياء الكذبة الذين سيأتون بعده ويضلّون كثيرين.
أمّا بالنسبة إلى أعياد القدّيس يوحنّا فهي ستّة: مولده في 24 حزيران، وقطع رأسه في 29 آب، والحبل به في 23 أيلول، والعيد الجامع في 7 كانون الثاني أي اليوم التالي مباشرة لعيد الظهور الإلهيّ لكونه عمّد الربّ، وتذكار وجود أوّل وثانٍ لهامَتِه في 24 شباط، وتذكار ثالث لوجود هامته في 25 أيّار.
إذًا، هناك أيقونات تظهر ما ذكر آنفًا، بالإضافة إلى أيقونة تدعى أيقونة الشفاعة Deisis أو التضرّع، حيث نراه واقفًا عن يسار المسيح الجالس على العرش، ورافعًا يديه نحو الربّ، وعن يمين المسيح تقف والدة الإله رافعة يديها أيضًا نحو المسيح.
هذا الكمّ والتنّوع لأيقونات المعمدان تترجم الأهمّيّة الكبرى له، كيف لا وهو الذي مدحه الربّ بقوله: "لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ"(متى 11:11).
الملفت في القدّيس يوحنّا أنّه لم يطلب في حياته إلّا مجد الربّ، وقد تخلّى عن كلّ شيء وسكن عمق البرّيّة ليكون مسكنه ملكوت السموات. صدْقُه جذب كثيرين إليه، فكان الصّوت الصّارخ في البرّيّة. كان ينادي بالتوبة ويعلن للجميع اقتراب ملكوت السّماوات. يطلب من الجميع أن يجعلوا قلوبهم مستقيمة بعيدة عن كلّ اعوجاج، ومنبّهًا إيّاهم بأنّ الفأس وضعت على أصول الشجر، والشجرة التي لا تثمر ثمرًا جيّدًا تُقطَع وتُرمى في النّار. وشدّد على أنّه ليس المسيح وليس "أَهْلًا أَنْ يحْمِلَ حِذَاءهُ"(متى 11:3)، وأنّ الربّ الآتي سيعمّد بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ.
إستقامة القدّيس يوحنّا تكمن في سيرة حياته، فهو كان يعيش ويفعل ما كان يبشّر به. هذا ما جعله يدعو الناس إلى التوبة ويوبّخ الفرّيسيين والصدّوقيّين بقوله: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ"(متّى 7:3-8). واضح كلامه، التمسّك بالخطيئة هو المرض، والتوبة هي الشفاء. لكنّ مصيبتهم أنّهم كانوا متكبّرين والكبرياء أمّ الخطايا وقاتلة النِعَم. فيا ربّ نجّنا لأنّنا كلّنا نخطئ.
القدّيس يوحنّا المعمدان جاهد الجهاد الحسن، ولم يساوم على قول الحقّ مهما كان الثمن. صحيح قُطع رأسه، ولكنّ هذا كان تاجَه الذي أدخله الملكوت. وهناك أيقونات له نراه فيها حاملًا رأسه المقطوع بكلّ فخر واعتزاز. هذا يذكّرنا بما قاله الربّ لنا: "لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ"(متّى 10: 28). لم يرهب يوحنّا حدّ السيف، ولا الموت البشريّ، لأنّ الموت الحقيقيّ هو الابتعاد عن الحقّ الذي هو الربّ.
مِن الناحية الإيقونغرافيّة، جهاد القدّيس يوحنّا المعمدان ظاهر بقوّة في الفنّ الكنسيّ في تاريخ الكنيسة. فنشاهد مثلًا فسيفساء في Arian Baptistry في رافينا - إيطاليا من القرن الخامس – السادس الميلاديّ تظهر القدّيس يوحنّا المعمدان يعمّد الربّ. يوحنّا ملتحٍ ولباسه يطابق ما نقرأه في الإنجيل: "وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ"(متى 4:3). هذا الأمر بقي كذلك على مدى العصور.
يشرح الباحث محمود زيباوي[1] أنّ هناك أيقونة للقدّيس يوحنّا المعمدان من القرن السادس الميلاديّ عاد بها الأرشمندريت بورفيريوس أوسبنسكي من دير القدّيسة كاترينة في سيناء - مصر في منتصف القرن التاسع عشر إلى كييف من ضمن أيقونات أخرى بعد أن أمضى وقتًا في الأراضي المقدّسة وسيناء يدرس الآثار المسيحيّة.
تعتمد الأيقونة الآتية من الشرق على تقنيّة المواد اللونيّة الممزوجة بالشمع العسليّ المُحمَّى، وتظهر ملامح القدّيس آثار الجهاد النسكيّ بوضوح على وجهه. القدّيس واقف يرفع يده اليمنى وفي يده اليسرى يحمل راية. يَبرُزُ في هذه الأيقونة ما شهد عليه يوحنّا عندما رأى يسوع آتيًا ليعتمد على يده: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!"(يوحنا 29:1).
كما توجد في أعلى الأيقونة دائرتان، نرى في الأولى الربّ يسوع المسيح ملتحيًا وفي الثانية والدة الإله مرتديةً الحجاب.
نخلص إلى القول إنّ الهدف مِن تعييد ذكرى القدّيسين والقدّيسات في الكنيسة هو التمثّل بهم وبسيرتهم، لأنّنا رعيّة واحدة مع القدّيسين وأهل بيت الله(أفسس 19:2).
إلى الربّ نطلب.
[1] . محمود الزيباوي باحث في تاريخ الفن وغيره وفنان، وصاحب مؤلفات عديدة ومقالات. مقالة في المجلّة الإلكترونية المدن بتاريخ 16-6-2023