مُذ سجَّلَت بيبلوس في مُدَوَّناتِها قَرارَ إيلَ (الإلَهَ-الأبَ في الثالوثِيَّةِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ) الى الإلَهَةِ-الأُمِّ، إثرَ مَقتَلِ إبنِهِما الإلَهِ، وَعَمَّمَتهُ على الحاضَراتِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ، مِن صورَ وَصَيدونَ وَبيريتَ واوغاريتَ الى كليكيا وَمَدى المُتَوَسِّطِ، والإنفِصالُ تَمَّ بَينَ لبنانَ والشَرقِ. غَرِقَ الشَرقُ في تَكريسِ الإنسانِ دَيناً مُقتَرَضاً مِنَ المَوتِ. وَتَعالى لبنانُ في تَوكيدِ جَسَدَ الإنسانِ شَراكَةً في كَرامَةِ صورَةِ الأُلوهَةِ، وَنَفسَهُ روحانِيَّةَ إكرامٍ لَها.
لبنانُ المؤمِنُ بِرِفعَةِ الإنسانِ، على ما عَلَّمَت بيبلوسُ عاصِمَتُهُ الروحِيَّةُ، كَرَّسَ إعتِناقاً لِمِحوَرِيَّةِ كَيانِ الإنسانِيَّةِ في مَركَزِيَّةِ الأُلوهَةِ. فَكَما السَماواتُ (مَسكِنُ إيلَ) والأرضُ (مَسكِنُ الإنسانِ) في تَلاقٍ، كَذَلِكَ الجَسَدُ البَشَرِيُّ والنَفسُ البَشَرِيَّةُ في إتِّحادٍ... والإلَهُ-الإبنُ، النازِلُ مِن مَسكِنِ أبيهِ لِمَسكِنِ الإنسانِ، هو الوَسيطُ بَينَ العالَمِ الإلَهيِّ والعالَمِ البَشَرِيِّ.
لبنانُ المؤتَمَنُ على مِلءِ المِعنى وإمتِلائِهِ بِسَبَبِيَّةِ الجَوهَرِ، أثبَتَ أنَّ الإنسانِيَّةَ لَيسَت خَليقَةَ الصِدفَةِ، والأُلوهَةَ لَيسَت هَلوَسَةَ العَدَمِ. فَلا الأولى تُعاقِبُ الثانِيَةَ، ولا الثانِيَةُ إنبِساطُها بِحِرمانِ الأولى.
أهوَ فِعلُ مَنحٍ تَبادُلِيٍّ، هذا الُلبنانُ في ما أتاهُ مِن جَوهَرِ بيبلوسَ: اللهُ يَمنَحُ حَياتَهُ لِلإنسانِ، والإنسانُ يَمنَحُ حَقيقَتَهُ للهِ؟ بَل فِعلُ إكتِمالٍ. فيهِ يؤَكِّدُ الإنسانُ لِذاتِهِ أنَّهُ لَيسَ حَيَواناً عاقِلَ مَحدودِيَّاتٍ، واللهُ يؤَكِّدُ لِذاتِهِ الثالوثِيَّةِ الأقانيمَ أنَّهُ لَيسَ سَجينَ أحادِيَّاتِ الوِحشَةِ. ألا فَإِقرأ مُدَوَّنَةَ المؤَرِّخِ الإغريقيِّ ميناندريس الأفَسُسِيِّ Μένανδρος لِحولِيَّاتِ صورَ، المُذَكِّرَةِ بِكرونيكاتِ بيبلوسَ، حَولَ قَرارِ الإلَهِ-الأبِ إثرَ إستِشهادِ الإلَهِ-الإبنِ على يَدِ شَرِّ العالَمِ: "ذَهَبَ الرُسُلُ يَبحَثونَ عن بَعلَ وأتَوا لِإيلَ يُعلِمونَهُ: تَجَوَّلنا حَتّى أقاصِيَ الأرضِ، لِحُدودِ الأراضِيَ المَروِيَّةِ. وَصَلنا لِأجمَلِ المُروجِ وأطيَبِ الحُقولِ القَريبَةِ مِن مَقامِ الأمواتِ. وَوَصَلنا لِقُربِ بَعلَ فَوَجَدناهُ مَرمِيًّا على الأرضِ. ماتَ بَعلُ القَديرُ، هَلِكَ أميرُ الأرضِ وَسَيِّدُها. حِينَئِذٍ نَزِلَ إيلُ الرَحومُ وَصاحِبُ القَلبِ الكَبيرِ عَن عَرشِهِ. وَجَثا. وَذَرَّ على رأسِهِ رَمادَ الحِدادِ، وَتُرابَ الحُزنِ. تَحَزَّمَ بالمِسحِ، وَجَرَحَ ذاتَهُ بِحَجَرٍ، وَقَطَعَ شَعرَهُ المُستَرسِلَ. هَشَّمَ وَجهَهُ وَذَقنَهُ، وَصَرَخَ بِأعلى صَوتِهِ: ماتَ بَعلُ! ماذا سَيَحدُثُ لِلمَجموعَةِ البَشَرِيَّةِ؟ سَأنزِلُ إلى الأرضِ على خُطى بَعلَ ."
الشَرقُ الناكِرُ هَوِيَّةَ الإنسانِيَّةِ وَغَيرِيَّةَ الأُلُوهَةِ، مِن مَطالِعَ ميزوبوتاميا الى مُتَناهِياتِ الفَراعِنَةِ وَكُثبانِ النَواهِيَ، إختارَ التاريخَ رَضيعاً يَستَلِبُ حَياةَ الآلِهَةِ والبَشَرِ، البَشَرِ والمُستَألِهينَ، المُستَألِهينَ والمُستَعبَدينَ.
الشَرقُ النَكِرَةُ عَمَّمَ، لِحَواضِرَ عَصرِيَّتِهِ تَدنيسَ كُلِّ إكتِمالٍ إذ جَعَلَ مِنَ البَحرِ مُسَطَّحَ غَدرٍ قاتِلٍ، والصَحراءَ أدغالَ مَخاطِرَ مُهلِكَةٍ... وَلا عُبورَ. وَما حُروبُ البَشَرِ إلَّا... تَجديداً لِشَبابِ اللهِ-المُعتَقَلِ، فَريسَتِهِمِ المُتَرَهِّلَةِ في بَواطِنَ مِن أشلاءٍ وَرُكامٍ وَ...أوهامٍ.
صَوغُ التَعَقُّلِ
لَم يَبنِ لبنانُ ذاتَهُ لِذاتِهِ، وَلا إستَفَرَّدَ بِذاتِهِ. في صَوغِهِ التَعَقُّلَ النازِلَ مِنَ الأُلوهَةِ الى الإنسانِ-الحيِّ، والطالِعَ جَواباً مِنَ الإنسانِيَّةِ الى الإلَهِ-المُحييِّ، تَتَطابَقُ الغَيرِيَّةُ والهَوِيَّةُ تَطابُقاً كامِلاً مُطلَقاً، بِتَناغُمِ تأنسُنِ الإبنِ، وَتَألُّهِ أبناءِ البَشَرِ.
غِناهُ، أنَّهُ بِهَذا، ثَبَّتَ تَجاوزَ الوجودِ والجَوهرِ لِذاتَيهِما بإبداعٍ-تَكامُلٍ.
ألَيسَ المَسيحُ-البَعلُ-الحَقيقِيُّ-المُحَرِّرُ، عَينُهُ، سَيَصرُخُ مِن أعلى صَليبِهِ بالفينيقِيَّةِ-الآرامِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ: "إيلوي إيلوي، لَما شَبقتاني؟ أيِّ: إلَهِيَ إلَهِيَ، لِمَ تَرَكتَني؟" (مَرقُسُ 15/34)، وَهو المُدرِكُ أنَّ إيلَ-الُلبنانِيَّ ذاتَهُ قَرَّرَ النُزولَ الى الأرضِ لِخَلاصِ البَشَرِ بَعدَ إستِشهادِ إبنِهِ، تَكريساُ لِهَذا التَجاوزِ، لِأنَّ الإنسانَ-المُحَرَّرَ مُعَدٌّ مُنذُ البَدءِ، لِلقيامَةِ: لِلانِهائِيَّةِ الأُلوهَةِ؟.
الشَرقُ والمُمَشرَقونَ، بِمُستألِهيهِمِ، سُقوطٌ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ. وَهو-لبنانُ يَقِفُ شاهِداً لِإِندِثارِ جُثَثِهِمِ...