بعدما تنفّست البلاد الصعداء على وقع تراجع أسهم الحرب الشاملة إثر وصولها إلى "الذروة"، في أعقاب ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت وردّ "حزب الله" الذي فُصّل على مقاس عدم تصعيد المواجهة، اعتقد كثيرون أنّ الفرصة أصبحت "سانحة" أمام مختلف الأفرقاء من أجل تحريك الاستحقاقات المجمّدة، وفي مقدّمها انتخابات رئاسة الجمهورية، التي أصبح واضحًا أنّ إنجازها لم يعد "ترفًا"، إذا كان لبنان راغبًا في حجز موقع في المعادلات التي تُرسَم للمنطقة.
استنادًا إلى ذلك، اتّجهت الأنظار خلال عطلة نهاية الأسبوع نحو كلمتي كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، باعتبارهما شكّلا على مدار العام الماضي "رأس حربة المواجهة"، إن جاز التعبير، حيث كثرت الرهانات على "مرونة" قد يحملها الخطابان، بما يفتح الطريق أمام "تفاهم" طال انتظاره، أو بالحدّ الأدنى أمام مبادرة رئاسية جديدة، قد تنجح حيث فشلت سابقاتها، نتيجة تغيّر الظروف والمعطيات.
لكنّ من استمع إلى الكلمتَيْن أدرك سريعًا أنّ كلّ الرهانات كانت "خائبة"، فالخطابان بدا أنّهما "مكرَّران" بصورة أو بأخرى، ولم يحملا عمليًا أيّ جديد يمكن البناء عليه، حتى إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري اختار أن يكرّر المبادرة التي كان قد أطلقها قبل عام في المناسبة نفسها، أي في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، لجهة الدعوة المفتوحة إلى حوار أو تشاور محدود تليه دورات انتخابية متتالية، ومن دون أيّ تغيير، ولو شكليّ، في بنودها، أو شروطها.
وبالتوازي، جاء ردّ المعارضة على مبادرة بري المكرَّرة، مكرّرًا أيضًا، فلم يحمل جديدًا، حيث تمسّكت هي الأخرى بخريطة طريقها، التي تدرك أنّ "لا فرص حياة" لها، فيما ذهب رئيس حزب "القوات اللبنانية" أبعد من ذلك، بمزيد من الشعارات "الرنّانة" من قبيل أن الطريق إلى قصر بعبدا لا تمرّ في حارة حريك، ولا من بوابة عين التينة "ووفق شروطها وحوارها المفتعل"، بحسب توصيفه، الذي لا يوحي سوى أنّ طريق إنجاز الاستحقاق تبقى "مسدودة".
في القراءة الموضوعية لخطابي كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، يبدو واضحًا أنّ المعسكرين الأساسيَّين، على خط ملف الرئاسة، يستمرّان في ممارسة لعبة "تقاذف المسؤوليات"، من دون أيّ اعتبار للظروف والمتغيّرات، ومن دون أيّ حساب للعواقب "الكارثية" التي قد تترتّب على التصلّب في المواقف، وكأنّ كلّ طرف يختبر "صبر" الطرف الآخر، وفق شعار "بيّي أقوى من بيّك"، إن صحّ التشبيه.
لعلّ هذا الأمر يتجلّى بوضوح في دفاع كلّ طرف عن خطابه، فالمحسوبون على رئيس مجلس النواب يعتبرون أنّ ما قاله الأخير في كلمته هو "عين الصواب"، لأنّ مجريات الأشهر الماضية أثبتت "استحالة" إنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون المرور بالحوار أو التشاور، بمعزل عن التسمية، إذ إنّ أيًا من المعسكرين لا يملك القدرة على "فرض" الرئيس على الآخر، من دون التفاهم، سواء رسا الخيار على أحد المرشحين المعلنين، أو على "خيار ثالث".
ويشدّد هؤلاء على أنّ تمسّك رئيس المجلس بمبادرته ينطلق بناء على ما تقدّم، من قناعته بأنّ "لا بديل" عنها، إذا توافرت الإرادة الحقيقية بانتخاب الرئيس، وذلك بدليل أنّ كلّ المبادرات التي أطلقت قبلها وبعدها، تستند إليها، بل هي "مُستنسَخة" عنها، ويشير هؤلاء إلى أنّ بري قادر على "فرض" هذه المبادرة، إن صحّ التعبير، من خلال حوار بمن حضر، توافق عليه أغلبية وازنة من النواب، إلا أنه يرفض ذلك، من باب معارضته لإقصاء أو عزل أيّ طرف.
في المقابل، تعتبر أوساط المعارضة أنّ كلام رئيس مجلس النواب في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر لا يؤكد سوى أنّه والفريق الذي يمثّله مصرّ على إبقاء الاستحقاق الرئاسي رهينة "بدعة" الحوار الذي بات التمسّك به بهذا الشكل وإلى هذا الحدّ "مريبًا" إلى حدّ بعيد، مذكّرة بأنّ المعارضة قدّمت لبري "سبيلاً" لإنجاز الاستحقاق من خلال "خريطة الطريق" التي طرحتها، والتي تتلاقى مع فكرة التشاور، إلا أنّه رفض مجرد النقاش بها.
وفيما تسأل أوساط المعارضة عن مغزى دعوة بري إلى الحوار والتشاور، فيما رفض عبر كتلته النيابية مجرد الاجتماع مع وفد المعارضة حين طلب منه الأخير موعدًا للقاء، تشدّد على أنّ دعوتها للنواب إلى الذهاب إلى المجلس النيابي لانتخاب الرئيس، تأتي بمثابة تعبير عن الاحتجاج على رفض بري القيام بواجباته عبر الدعوة لجلسات انتخابية، بل المجاهرة بذلك في العلن، في مخالفة واضحة وفاضحة لقواعد العمل البرلماني، وفق تعبيرها.
وبين "منطق" المؤيدين لبري والمحسوبين على المعارضة، يبدو واضحًا أنّ طرق التفاهم، وربما الحوار، "مسدودة"، بدليل تصاعد حجم الخلافات، ولو تركّزت على التفاصيل التي لا تغيّر الكثير، وإن كمنت "الشياطين" خلفها، لكنّ ما يبدو واضحًا أيضًا بحسب العارفين، هو "تقاطع وحيد ومستتر" بين الجانبين، على "تقطيع الوقت" ربما، بانتظار "فرج" لا يُعتقَد أنّه سيأتي قبل انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، والجبهات المترتّبة عليها في أكثر من مكان.
فعلى الرغم من أنّ الطرفَين يصرّان على عدم وجود "ترابط" بين الحرب على غزة، والاستحقاقات السياسية، وهو ما كرّره رئيس المجلس في خطابه الأخير، وتؤكده المعارضة في كلّ المناسبات، إلا أنّ الواضح أيضًا أنّ الطرفَين "استسلما ضمنًا" لفكرة أنّ لا انتخابات رئاسية ولا من يحزنون قبل انتهاء الحرب، وأنّ هناك رهانًا لدى هذا الطرف وذاك على أنّ نتيجة الحرب قد تحدّد "اتجاه البوصلة الرئاسية"، ولو جاهرا بالعكس بطبيعة الحال.
لا شكّ أنّ هذا المنطق يصطدم بحقيقة تاريخية ثابتة قوامها أنّ لبنان لا يمكن أن يُحكَم بمنطق "الغالب والمغلوب"، وأنّ ربط الاستحقاقات الوطنية باستحقاقات خارجية، لا يفترض أن يكون لها تأثير على الوقائع الداخلية لم يكن يومًا نافعًا، إلا أنّ العارفين يستبعدون أن يقدم أيّ فريق على "تليين موقفه" قبل نضوج المعطيات، خصوصًا أنّ الانطباع السائد أنّ المنطقة مقبلة على تحوّلات "تاريخية" قد لا يكون ما بعدها كما قبلها بأيّ شكل من الأشكال.
لعلّ المشكلة في الاستسلام لمثل هذا الواقع، تكمن في أنّه يتجاهل حقيقة أنّ انتخاب الرئيس يبقى ضروريًا لمواكبة هذه التحولات، إن حصلت، لأنّ بقاء لبنان بلا رئيس قد يحرمه من الجلوس على طاولة المفاوضات، ما سيجعله "الخاسر الأكبر" في كلّ الأحوال، لكنّ السؤال الجوهري يبقى: أيّ طرف سيبادر إلى "التنازل"، ولو شكليًا، من أجل تحقيق "حدّ أدنى" من التفاهم بات أكيدًا أنّ لا رئاسة ولا من يحزنون من دونه بطبيعة الحال؟!.