صحيح أنّ الانطباع الذي ساد بعد الخطاب الأخير لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع لم يشكّل "خرقًا" لما هو مألوف في الأوساط السياسية، حيث لم يبدُ أنّ رفضه لتوصيف "حزب الله" بـ"الإرهابي" ردًا على هتافات الجمهور "المتحمّس"، كان كافيًا لإحداث "صدمة إيجابية" في مكانٍ ما، لتأتي التعليقات على الخطاب بعده مباشرة سلبيّة كالعادة، باعتبار أن الرجل لم يقدّم بادرة "حسن نيّة"، ولم يوحِ بأيّ "مرونة" في مواقفه المعروفة من مختلف الاستحقاقات.
لكنّ "المفاجأة"، إن صحّ التعبير، جاءت بعد ساعات من الخطاب، ببيان رسميّ صدر عن اللجنة المركزية للإعلام والتواصل في "التيار الوطني الحر"، بدا في مضمونه مناقضًا لآراء بعض "العونيّين" عبر منصّات التواصل، حيث أشاد بما وصفه بـ"التطوّر في الموقف" الذي أبداه جعجع في خطابه، خصوصًا لناحية المقاومة وشهدائها، ومواضيع الحوار والعيش المشترك ووحدة لبنان والتلاقي والخروج من الماضي وبناء المستقبل.
وإذا كان "التصويب المتبادل" هو الذي ساد في الآونة الأخيرة بين "التيار" و"القوات"، لدرجة أنّ بعض البيانات الصادرة عنهما انحدرت لمستوى "القدح والذمّ"، إن صحّ التعبير، فإنّ "الوطني الحر" وجد في كلام جعجع هذه المرّة، "ما يتلاقى" مع مواقفه "الانفتاحية"، بل "ما يتماشى، في ما يخصّ رئاسة الجمهورية، مع ما استطعنا الحصول عليه والتوافق بخصوصه مع معظم الكتل النيابية، من معادلة تشاور بغية التوافق مقابل جلسات انتخاب متتالية ومفتوحة".
وتضمّن بيان "التيار" دعوة مبطنة إلى "القوات" للتساهل حول ما وصفته بـ"الشكليّات البسيطة"، وبالتالي التجاوب مع دعوة التشاور في مجلس النواب، لكون أي تأجيل إضافي لعملية التشاور لا يساعد في انتخاب الرئيس، ما يطرح علامات استفهام عمّا إذا كانت الإشادة التي تكاد تكون غير مسبوقة من "التيار" لـ"القوات" من شأنها أن تفضي إلى "تقاطع" يؤدّي بدوره إلى تفاهم، أم أن الأمر لا يتجاوز "الشكل"، وكيف تتلقّف "القوات" تحديدًا هذه الأمور.
بالنسبة إلى العارفين، فإن عوامل عدّة دفعت نحو المقاربة "الإيجابية" من جانب "التيار الوطني الحر" لخطاب جعجع الأخير، منها ما يرتبط بالمواقف التي انطوى عليها، والتي غاب عنها الهجوم الذي دأب عليه الأخير في الآونة الأخيرة ضد باسيل، ومنها ما يرتبط بالتموضع الذي يريده "التيار" لنفسه، ضمن الدائرة "الوسطية" إن جاز التعبير، استكمالاً للمساعي التي كان أطلقها في محاولة لتقريب وجهات النظر بين مختلف الأفرقاء.
وتتقاطع هذه المقاربة بصورة أو بأخرى مع ما يقوله المحسوبون على "التيار الوطني الحر" أنفسهم، في قراءة خطاب جعجع، الذي كان "هادئًا" برأيهم خلافًا للعادة، وهو لم يصوّب على "التيار" ورئيسه، كما كان يفعل في العديد من المناسبات، حين كان "يزجّ" بباسيل مثلاً في قلب "معسكر الممانعة"، متجاوزًا المواقف التي يعلنها الأخير من الكثير من الاستحقاقات، وذلك بما يشبه "المحاكمة على النيّات" التي لا تستند إلى أيّ واقعيّة سياسيّة.
بحسب هؤلاء، فإنّ الكثير من الطروحات التي أطلقها جعجع في خطابه الأخير، تتلاقى مع ما ينادي به "التيار" أساسًا، ليس في الرئاسة فقط، بل حتى في مقاربة الحرب في الجنوب، فـ"التيار" من رافضي "وحدة الساحات"، لكنّه في الوقت نفسه مع المقاومة، ويحترم شهداءها، ولعلّ هذه النقطة بالتحديد شكّلت في خطاب جعجع، ما يمكن تصنيفه بـ"القفزة النوعية"، بعيدًا عن الخطابات النمطية التي تضرّ ولا تنفع، من نوع "لا يشبهوننا" وغير ذلك.
وحتى على مستوى الرئاسة، يتحدّث المحسوبون على "التيار" عن تقاطع "في المضمون" مع جعجع، الذي بدا واضحًا أنّه لا يعارض الحوار أو التشاور، إذا ما كان محصورًا بملف الرئاسة، ليصبح الخلاف معه فقط على "شكليّات بسيطة"، كما جاء في بيان "التيار"، وذلك ربطًا بالإخراج المفترض لهذا الحوار أو التشاور، وهي شكليات يعتقد "العونيّون" أنّ تجاوزها يبقى ممكنًا، من أجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يفترض أن يكون أولوية الأولويات.
وفي حين لا يبالغ المحسوبون على "التيار" بتوقّع أن يفضي التقاطع مع "القوات" إلى تفاهم أوسع وأعمق، مشدّدين على أنّ الأولوية اليوم انتخاب رئيس للجمهورية، وليس البحث في التفاهمات والتحالفات التي لا تقدّم ولا تؤخّر، فإنّ المفارقة أنّ "القوات" لا تتلقّف على ما يبدو كلام "التيار" إيجابًا، بل إنّ أوساطها تعتبر "الودّ الظاهر" في بيان لجنة الإعلام أقرب إلى "الخبث المبطن"، أو إذا ما حسنت النوايا، مجرد "مسرحية" لا تغني ولا تسمن من جوع.
وفي حين تلمّح أوساط "القوات" إلى أنّ قيادة "التيار" تحاول القفز فوق المأزق الداخلي الذي تتخبّط فيه، من خلال الإيحاء بأنّها صاحبة "العقل الكبير" في التعامل مع الاستحقاق الرئاسي، تشير إلى أنّ عوامل عدّة وردت في بيان "التيار"، تدفع إلى التشكيك بحسن النوايا خلفه، من بينها استخدام تعبير "التطور في الموقف"، ما يعني ضمنًا أنّ جعجع هو الذي غيّر موقفه، ليتلاقى ويتماشى مع موقف "التيار"، وليس العكس.
تؤكد أوساط "القوات" أنّ هذا الاستنتاج ليس دقيقًا، فما قاله جعجع في خطابه الأخير، يقوله منذ اليوم الأول للفراغ الرئاسي، وهو لا يزال ثابتًا على المعادلة نفسها، لجهة رفض الحوار "المفتعل" الذي يريده رئيس مجلس النواب، وفي المقابل، القبول بتشاور محدود على هامش جلسة الانتخاب، بعيدًا عن تكريس "بدع جديدة" يريدها معسكر الممانعة، يصبح معها الحوار أو التشاور "شرطًا للانتخاب" خارج الأطر الدستورية.
أما ما هو غير مفهوم وغير مبرّر في بيان "التيار"، بحسب أوساط "القوات"، فهو دعوته إلى تجاوز ما وُصِف بـ"الشكليات البسيطة"، رغم أنّ ما تنادي به "القوات" ليس شكليًا ولا بسيطًا، وذلك بغية التجاوب مع ما يريده رئيس مجلس النواب من تشاور برئاسته، كان باسيل نفسه يرفضه، قبل أن ينقلب على موقفه، ولذلك تسأل الأوساط: "لماذا لا يطلب باسيل من بري تجاوز هذه الشكليات، وكيف يُطالَب من يدعو لتطبيق الدستور إلى تليين موقفه؟".
في النتيجة، تشدّد أوساط "القوات" على عدم الرهان على موقف "التيار" بأيّ شكل من الأشكال، ليس فقط استنادًا إلى تجربة "تفاهم معراب" الشهيرة، ولكن لأنّها تدرك أنّ باسيل لا يريد من التقاطع معها سوى تحصيل "مكسب" قطع طريق قصر بعبدا على رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ليعود بعد ذلك إلى أحضان "حزب الله"، تحت ستار "خيار ثالث" يحظى بموافقة الحزب ومباركته، بمعزل عن مواقف المعارضين والخصوم.
لا تريد "القوات" العودة إلى زمن "تفاهم معراب" إذاً، وقد تكون هذه نقطة تقاطع أخرى مع "التيار"، الذي لا يرى مصلحة في ذلك، ولو كان يعتبر أنّ التلاقي أساسيّ في المرحلة "الانتقالية" حتى الانتخابات النيابية المقبلة، التي يريد أن يكمل خلالها "ورشة التصحيح" التي أطلقها على المستوى الحزبيّ، وإن كان الجانبان يبقيان هامشًا واسعًا من "المناورة" إلى حين بلورة معالم "العهد الجديد"، بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية!.