كان التطبيع العربي مع اسرائيل قبل سنوات من الزمن، مجرد حلم بالنسبة الى المسؤولين الاسرائيليين والاميركيين على حد سواء، وكان مشروطاً بطلبات صعبة نسبياً، لذلك كان الحديث عن مبدأ الارض مقابل السلام هو السائد. ولكن، بعد وصول الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب الى السلطة، تحوّل الحلم الى حقيقة، وعبّد الأخير الطريق امام التطبيع مع غالبية الدول الخليجيّة، فيما كانت الحصّة الدسمة (اي المملكة العربية السعودية) على الطريق لولا الحرب على غزة وتداعياتها.
اليوم، يبدو ان التطبيع عاد خطوة الى الوراء، ليس بفضل العرب، انما بفضل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي استهدف مصر بكلام من العيار الثقيل، وضع فيه كل الجهود التي تمّ بذلها في سبيل التطبيع، في خطر، بينما كان تحدث سابقاً بشكل غير مباشر عن قطر وعن اعتبارها الملاذ الآمن لمسؤولي حركة "حماس"، والتنسيق القائم بينهما، ايّ بكلام آخر، اعتبارها بمثابة دول عدوّة لانّه يعتبر "حماس"، كما سائر الفلسطينيين والعرب، من الاعداء والارهابيين. هذا التشنّج مع مصر ساهم في القاء جو من التوتر والقلق على مخيّم العرب، فيما زادت نسبة المتشددين الاسرائيليين الذين بدأوا يظهرون تململهم من امكان حصول التطبيع، معتبرين انه لا يجب على دولتهم اليهودية ان تطبّع مع دول أقلّ منها شأناً. هذا الامر زاد من قلق الاميركيين بالدرجة الاولى، لان الحزبين الجمهوري والديمقراطي يتشاركان التوجّه نفسه لجهة اهمّية استكمال خطوات التطبيع، لما فيها من فوائد سياسيّة واقتصاديّة وماليّة كبيرة لا يمكن حصرها، من تعزيز كبير للنفوذ الاميركي في المنطقة، في ظلّ التواجد الروسي في سوريا وخطط توسّعه، اضافة الى اوروبا الباحثة عن دور اكثر اهمية لها في هذه البقعة الجغرافية من العالم. لذلك، يمكن اعتبار الخلاف مع مصر، في هذا التوقيت تحديداً، بمثابة جنون غير مفهوم، وغير مبرّر، وغير مضمون النتائج، لانه لو تطور الامر من خلاف الى اختلاف ومواجهة، فستكون الامور اكثر تعقيداً، فيما بدأ بعض الدول العربيّة مراجعة حساباته مع اسرائيل، والتفكير انه اذا كانت مصر المرتبطة مع الاسرائيليين باتفاق سلام منذ العام 1977 تحوّلت فجأة الى عدوّة، فكم بالحري الدول الحديثة العهد التي وقّعت تطبيعاً فقط مع اسرائيل؟ هل ستنظر لها الاخيرة من باب العداء ايضاً؟ ولكن الاهم يبقى من الناحية الميدانيّة، لانّه اذا كانت اسرائيل لا تقبل بالمصريين لحماية حدودهم، فهناك كارثة حقيقيّة على الاسرائيليين، لانه لا يمكنهم ضبط الحدود بشكل تام من جهة، وسيحرج هذا الوضع الولايات المتحدة الاميركيّة وباقي الدول الغربيّة من جهة ثانية، وذلك بسبب اعتمادهم على مصر كبوّابة للشؤون الماليّة والاقتصاديّة بالنسبة الى واشنطن في المنطقة. واذا استثنينا الخليج، فإنّ مصر تحظى بدور فاعل على صعيد الدول العربيّة وقادرة على مساعدة الاميركيين والاوروبيين في ايّ مشكلة تطرأ، ويحتاج الاميركيّون الى التدخل فيها.
ولكن، على الرغم من كل ذلك، لا يبدو من الواضح انّ العلاقات ستنقطع بين اسرائيل ومصر، وذلك لسبب بسيط وواضح وهو ان نتنياهو لن يبقى في السلطة لأمَدٍ طويل، وبما انه الوحيد الذي يغرّد خارج السرب حالياً، فلا خوف في المستقبل من رؤية هيكل العلاقة بين مصر واسرائيل يقع عليهما، فالبديل الذي سيحل مكان رئيس الوزراء الحالي، اياً كان اسمه، لن يكون متحمساً كما هو نتنياهو اليوم، على العودة الى الحدود وتوتير العلاقات، بل سيعمل بجهد على تخطي هذه الازمة واعادة المياه الى مجاريها، وتشجيع الدول الباقية على ترك الاحلام والعودة الى الواقع. وبالتالي، لن ينهار اتفاق السلام، بل سيتعزّز، ومهما قيل من توقعات فإن الثابت ان الادارة الاميركية المقبلة (جمهورية كانت ام ديمقراطية)، لن تقبل بالتفريط بهذا الاتفاق ولا بالتنسيق الذي كان قائماً بين الجيشين المصري والاسرائيلي.