عيد ميلاد العذراء مريم في اليوم الثامن من شهر أيلول هو فاتحة الأعياد في السنة الليتورجيَّة في الكنيسة الأرثوذكسيَّة الَّتي تبدأ في الأوَّل من الشهر المذكور. القدِّيسون في الكنيسة وصفوا العيد بأحلى الأوصاف، وذلك لأنَّ الطفلة المولودة هي والدة الإله. من هنا الأعياد الأربعة لوالدة الإله، أي ميلادها، ودخولها إلى الهيكل، وبشارتها، ورقادها الَّتي هي من ضمن الأعياد الكبيرة الثلاثة عشر، تدعى جميعها أعيادًا سيِّديَّة نسبة إلى السيِّد الربِّ يسوع المسيح لأنَّه المحور والكلُّ في الكلِّ.
فالقدِّيس يوحنَّا الدمشقيُّ وصف ميلاد العذراء بفرح المسكونة جمعاء لأنَّ كلَّ جنس البشر سيتجدَّد بالمسيح الَّذي سيولد منها، والَّذي سيعيد رفع الإنسان إلى وطنه الأوَّل، السماء، وذلك بعد سقوط الإنسان الأوَّل بالخطيئة. لذا، فالعذراء هي حوَّاء الجديدة الَّتي ستزيل حزن الخطيئة وشرَّها.
وليس صدفة أن يكون اليوم الثامن هو العيد، لأنَّه اليوم الجديد بعد اليوم السادس للخلق واليوم السابع في العهد القديم. فمع تجسُّد الربِّ وقيامته دخلنا في اليوم الثامن الَّذي هو خارج الزمن، اليوم الملكوتيِّ والأخرويِّ في المجيء الثاني والدينونة العامَّة. إذًا مع هذا العيد لا نكون دخلنا فقط سنةً جديدة بل زمنًا جديدًا وعهدًا جديدًا وخليقة جديدة، فنولد من جديد ونجتاز السنة بأكملها رمزًا لحياتنا الأرضيَّة، لنبلغ في النهاية الرقاد، فعيد رقاد والدة الإله في اليوم الخامس عشر من شهر آب هو آخر عيد سيِّديٍّ في السنة الطقسيَّة. وبعد ذلك ينقلنا الربُّ إليه إذا أحسنَّا التوبة والجهاد.
تعطي الكنيسة أهمِّيَّة كبيرة لوالدة الإله، أوَّلًا لسيرتها الطاهرة وجهادها، فهي من جنسنا البشريِّ، وولدت مثلنا كسائر البشر، واختارت بملء حرِّيَّتها أن تكون للربِّ بالكلِّيَّة جسدًا وروحًا، فكانت خير مثال لنا جميعًا. وثانيًا هي الَّتي قالت في نشيدها: «لأنَّه نظر إلى اتِّضاع أَمَته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبُني» (لوقا 1: 48).
وما قول الملاك جبرائيل لها: «المولود منك يُدعى ابن الله» (لوقا 1: 35) واستقبال أليصابات للعذراء بقولها: «فمن أين لي هذا أن تأتي أمُّ ربِّي إليَّ؟» (لوقا 1: 43)، إلَّا خير دليل على أنَّ لقب والدة الإله هو من صلب الكتاب المقدَّس، فإذا كان المولود منها هو ابن الله، ألا تكون هي والدة الإله؟ بالطبع نعم.
الليتورجيَّة في العيد تنشد أنَّ ولادة العذراء هي إنهاء، ليس فقط لعقم والدَيها يواكيم وحنَّة بعد صلاة وصوم كبيرين، بل انتقال من العهد القديم إلى العهد الجديد، من عهد الشريعة والناموس والنبوءات، إلى عهد النعمة والخلاص وتحقيق النبوءات بالمسيح يسوع. ويقول القدِّيس إندراوس الكريتي في ذلك: «الشجرة غير المثمرة، أي والدا العذراء، أصبحت مثمرة بنعمة الربِّ، وحلَّت الحياة مكان العقم. ها أمُّ الحياة تولد مبشِّرةً بفجر جديد مع يسوع الَّذي هو الحياة».
كثيرة هي أيقونات عيد ميلاد والدة الإله ومتنوِّعة في تفاصيلها. الشيء المشترك هو أنَّ القدِّيسة حنَّة والدة العذراء مريم مستلقية على سرير، وأمامها الخادمات اللواتي ساعدنها في ولادتها. أمَّا المشاهد المتنوِّعة بين أيقونة وأخرى فهي: وجود طبيب بالقرب من القدِّيسة حنَّة، نساء تحملن مراوح لتبريد الجوِّ الحارِّ وإنعاشها، نساء يحملن أقمشة وأواني، نساء يحملن عقاقير، إمرأتان تغسلان الطفلة مريم المولودة حديثًا، وهذا يذكِّرنا بمشهد غسل الطفل يسوع في أيقونة الميلاد.
كذلك نشاهد في أيقونات أخرى القدِّيس يواكيم والد مريم في أوضاع مختلفة: ينظر حدث الولادة من خلف الستار، أو يقف تحت قنطرة، أو أمام سرير تنام فيه الطفلة مريم. يبشِّره ملاك الربِّ بأنَّ زوجته ستحبل، طبعًا نتكلَّم هنا عن حبل طبيعيٍّ مثل سائر البشر لأنَّ والدة الإله فقط حبلت بالروح القدس وولدت الربَّ يسوع.
وهناك أيقونات نشاهد فيها يواكيم وحنَّة يتعانقان في مشهد جانبيٍّ حول الحدث الأساسيِّ في الوسط. بالإضافة إلى تفاصيل أخرى تتعلَّق بالعيد.
ويوجد في الخلف بناءان يرمزان إلى العهدين القديم والجديد وأحيانًا نشاهد جزءًا من منزل يواكيم وحنَّة. هنا توجد ملاحظة مهمَّة، فالجزء الظاهر من منزلهما لا يحدُّه سقف وحيطان، إشارة إلى أنَّ الحدث في الأيقونة يجري خارج الزمان والمكان.
لا بدَّ من أن نذكر أنَّ تاريخ العيد يعود إلى أواسط القرن الخامس في أورشليم حينما كُرِّست كنيسة على اسم والدة الإله مريم قرب بركة بيت حسدا. وانتقل العيد في القرن السادس إلى القسطنطينيَّة حيث وضع القدِّيس رومانوس المرنِّم التراتيل الخاصَّة بهذا العيد، وما زلنا نصلِّي بعضها في طقوسنا. ومن الشرق انتقل العيد إلى الغرب في عهد البابا سيرجيوس الأوَّل (687-701) الأنطاكيِّ الأصل.
من أكثر مصادر العيد إنجيل يعقوب المنحول. وهنا نَلفت إلى أنَّ الأناجيل المنحولة ليست كلُّها مرفوضة.
كما لا بدَّ من أن نذكر أنَّ ليتورجيَّة العيد في القراءات والصلوات في الغروب والسحر تساعد المؤمن على فهم لاهوت العيد وعمقه. فهناك قراءات من العهد القديم تشير إلى العذراء كانت رموزًا والآن كشفت، مثل السلَّم المنتصبة بين الأرض والسماء وعليها انحدر الإله (تكوين 28: 12-14)، وباب المقدس المغلق لأنَّ الربَّ وحده دخل منه، رمزًا إلى البتوليَّة (حزقيَّال 44: 1-2)، والحكمة الَّتي تدعو الناس إلى مائدتها (أمثال 9: 1-18).
نصل إلى خلاصة ما ننشد في العيد: «هذا هو يوم الربِّ فتهلَّلوا يا شعوب...». «اليوم ظهرت بشائر الفرح لكلِّ العالم...». «اليوم حدث ابتداء خلاصنا يا شعوب...».
إلى الربِّ نطلب.