ألَّا يبقى الإنسانُ وجوداُ في مَساحَةٍ بَل يَتَجاوَزُها بإنفِتاحٍ على كُلِّيَةِ الجَوهَرِ وَكُلِّيَةِ الآخَر، هذا ما حَمَلَهُ الصَيدونِيُّونَ لا الى أثينا-الغَربِ فَحَسبَ، بَل الى السامِرَةِ-الشَرقِ. أكانَ ذَلِكَ إنجازاً لِمِعنى التأنسُنِ، سابِقاً لِما قَبلَ تأطيرِ الوجودِ؟.

لَقَد كَرَّسَ الصَيدونِيُّونَ بُعداً إنقِلابِيَّاً مُنذُ بَدءِ الإدراكِ، قائِماً على أنَّ الإنسانَ، ذاكَ الكائِنَ مِن تُرابٍ وَغُبارٍ مُنفَتِحٌ على تَخَطّي ذاتِهِ الى الأقصى مِن ذاتِهِ وَ...مُحيطِهِ. وَهو عَهدٌ-إرثٌ حَمَلوهُ مِن "صَيدونَ" مؤَسِّسِ المَدينَةِ-الحاضِرَةِ وَمُعطيها إسمَهُ، بِكرُ كَنعانَ حَفيدُ نوحَ (سِفرُ التَكوينِ 10/15).

أمُنذُ خَلاصِ المَسكونَةِ مِنَ الطوفانِ؟ بَل تَأكيداً مُنذُ رَفَعَتِ الأُلوهَةُ الكِلفَةَ بَينَها والإنسانَ لِيُكمِلَ تَجَلِّياتِهِ بَعيداً عَن مَحدودِيَّاتِهِ.

أجَل! هي صَيدونُ ألبانيها مُتَحَدِّرٌ مِن أوَّلِ كَليمٍ لِلأُلوهَةِ، وَقَد بَسَطَ إمتِدادَها مِن لبنانَ الى "نَحوَ جَرارَ فَغَزَّةَ، وَنَحوَ سَدومَ وَعَمورَةَ وأدَمَةَ وَصَبوئِيمَ إلى لاشَعَ..." (سِفرُ التَكوينِ 10/19). وَرَصَفَ السامِرَةَ عاصِمَةً لِعُمقِ الشَرقِ، عُمقِ الداخِلِ. وَذاتَ مَلِكٍ، إذ تَباعَدَ ألعِبرانِيُّونَ، مُحتَلُّو أراضٍ في الشَرقِ، عَن تَداخُلِ السِرِّ الإلَهيِّ في سِرِّ الإنسانِ، فَنَصَّبوا لِذاتِهِمِ إلَهاً مُنغَلِقاً يَبطُشُ وَيُبيدُ، على صورَةِ شَهَواتِهِمِ، سَيُزَوِّجُ مَلِكُ صَيدونَ إتُبَعلُ إبنَتَهُ جيزابيلَ لِأحابَ مَلِكِ السامِرَةِ وَنَواحيها وَيَبنِيَ فيها مَعبَداً لِبَعلَ الإلَهِ-الأبِ في الثالوثِيَّةِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ (سِفرُ المُلوكِ الأوَّلِ 16/31)، تَوطيداً أنَّ اللهَ لَيسَ إضافَةً الى جانِبِ آخَرينَ وَلا طاغِيَةً مُتَقَدِّماً بَينَ مُتَساوينَ، بَلِ الحَقيقَةُ المَحبوبَةُ في سِرِّهِ وَغايَتهِ والآخَرينَ.

أمُنذُ كانَت، إسمُها الآتيُ مِن "مَصايدَ" مِعناهُ رامِيَةُ الشِباكَ لِلصَيدِ الوَفيرِ؟ بَل تَأكيداً هي ما آلَت يَوماً لِمُفارَقاتِ إستِلابٍ. بِوَجهِ الغُزاةِ، كانَتِ الثَورَةَ. وَمُنذُ العامِ 315 قَبلَ الميلادِ، ألهَبَتها في الحاضِراتِ-الدُوَلِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ ضِدَّ الفُرسِ بِقيادَةِ مَلِكِها تَبريتَ. وَبَدَلاً مِنَ الإستِسلامِ، أغلَقَ أبناؤها أبوابَ مَدينَتِهِمِ على أنفُسِهِمِ وأشعَلوا فيها النيرانَ، فإستَشهَدَ 40 ألفاً لِيُحافِظوا على صَميمِيَّتِهِمِ. فَكَرَّسوا الفِعلَ-الفِادِيَ لِسائِرِ الدُوَلِ-الحاضِراتِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ وإمتِداداتِها.

أجَل! هي صَيدونُ المُنتَصِرَةُ على الهَلاكِ بِتَحقيقِ ذاتِها في الأُلوهَةِ المُنفَتِحَةِ على إنفِتاحِ الإنسانِ.

الوجودُ الحَقُّ

ألَّا يَبقى الإنسانُ في كِفايَةِ العَقلانِيَّاتِ، بَل يَتَعالى لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العُبودِيَّةِ والضُعفِ والخَطيئَةِ، هذا ما كَرَّسَتهُ بِدَمِها صَيدونُ، مُعيناً لِيَبقى الوجودُ حَقَّاً والحَقُّ وجودٌ.

ألَيسَ ذاكَ ما سَيُعَلِّمُهُ زَينونُها (المَولودُ العامَ 155 قَبلَ الميلادِ، والمُتَوَفِيَّ العامَ 75 قَبلَ الميلادِ)، لِشَيشَرونَ في الغَربِ-أثينا وَفيلوديمَ ألمِن غَدارا، حَولَ حَقيقَةِ هَناءِ البَشَرِ؟

ألَيسَ ذَلِكَ أساساً ما عَلَّمَتهُ أهلَ السامِرَةِ العِبرانِيِّينَ في أنَّ مَبدأ الحَياةِ يُستَمَدُّ مِن دَورَةِ المياهِ الكَونِيَّةِ: فالمِياهُ تَترُكُ السَماءَ لِتَدخُلَ قَلبَ الأرضِ، مَسكِنَ الأمواتِ. وَمِنهُ تَعودُ لِلسَماءِ بِأُبَّهَةِ السُحُبِ المُنهَمِرَةِ مَطَراً... مِنهُ اليَنابيعُ المُتَدَفِّقَةُ هي قَلبا الأرضِ والسَماءِ ألصارا وِحدَةً تُعيدُ التَكوينَ؟

ألَيسَ المَسيحُ، في السامِرَةِ ذاتِها، سَيَكشِفُ لِسامِرِيَّةٍ، ذُروَةَ ظُهرٍ، أنَّ الكَينونَةَ الإنسانِيَّةَ إن لَم تُفضِ لِلإلَهِ الحَقِّ فَتُلاقيَهُ وَتَتَشارَكَ مَعَهُ الأُلوهَةَ سَتُصابُ بِخَيبَةٍ انطولوجِيَّةٍ حَتمِيَّةٍ؟ ألَيسَ هو مَن سَيَقولُ لَها: "مَن يَشرَبُ الماءَ ألمُعطيهِ إيَّاهُ لَن يَعطَشَ أبَداً بَلِ الماءُ المُعطيهِ إيَّاهُ يَصيرُ فيهِ عَينَ ماءٍ يَتَفَجَّرُ حَياةً أبَدِيَّةً"؟ (يوحَنَّا 4/6-42).

أجَل! صَيدونُ، ديالِكتيكٌ إنسانِيٌّ-إلَهِيٌّ مُجاهِدٌ لِتَجاوزِ الصِراعِ الكيانِيِّ، وَتَخَطِّي الذاتِ عَبرَ إتِّحادٍ.

هوَذا لبنانُ اليَنابيعُ!

مُنذُ ما قَبلَ البَدءِ... نَقيضَ المَذاهِبَ الوَضعِيَّةِ والنَزعاتِ الأنتروبولوجِيَّةِ وَضُروبَ البَدائِلَ والتَعَصُّبِيَّاتِ.