وغاب عام آخر... وكأنهم لم يأتوا الى الجمعية العامة في أيلول الفائت. جلسوا واجتعموا وصرّحوا من على منبرها، وما تزال الصراعات تراوح مكانها، لا بل تنشبُ في دول أخرى دون حلول او هدنة. سيضرب رئيس الجمعية العامة المطرقة، في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، إيذاناً بافتتاح كلمات قادة العالم وملوكه. معظمهم سيأتون ويجتمعون علناً، لكن الاتفاقات السريّة لا تحاك إلا في الأروقة المظلمة في زوايا المنظّمة الدولية. بالأمس كانت أوكرانيا وطرُق التجارة العالمية في صلب المحادثات الدوليّة، اما هذا العام، فستتفوّق دماء أطفال غزة وصراخ أطفال السودان واليمن على كل الأزمات. والغريب انه إذا نظرنا الى مواقع هذه الدول، لوجدناها تقع في أكثر مناطق العالم ثراء بالنفط والموارد.
توحّد العالم بأسره لمواجهة وباء كورونا منذ أربع سنوات، ولكنه عاد الى الصراع من جديد تحت مسمّى حقوق ملكيّة الأرض والثروات. ازداد عدد الدول العظمى، وصار معظمها يطالب بمقعد ثابت في مجلس الأمن، مثل الهند والدول العربيّة، كحقّ طبيعي لنشاطها الاقتصادي في العالم؛ فكأننا اليوم أمام قوى عظمى جديدة غير التي كانت يوم تأسيس الأمم المتحدة.
بالأمس كانت الدول الأوروبية ترسم خرائط الدول العربية والإفريقية، وتتوزّعها مستعمراتٍ. اما اليوم، فهي تبحث عمَّنْ يقودها كي تنهض من أزمات اقتصادية، وتجنّبَها الدخول في حرب بعضها مع بعض، بعدما طُردت من افريقيا الناهضة من تحت ركام الاستغلال، والتي فتحت ذراعيها لمستعمر اقتصادي آخر اسمه الصين أو روسيا.
الجمعية العامة هذا السنة ستكون مختلفة حتماً. ستعلو فيها أصوات المنتقدين لمجلس الأمن له لأنه لم يتوصل الى قرارٍ يُوقف الصراع الدامي في غزة، التي أصبحت أمَّ القضايا الدولية، وجعلت العالم ينسى اوكرانيا وسوريا واليمن.
ما عسى الأمين العام للأمم المتحدة ان يفعل؟ وهو الذي فشل بدوره في وقف النزاعات الدامية في فلسطين، مع أنه خلق لنفسه عداوة مع إسرائيل حين ناصر الفلسطينيين في الحرب؛ وربما فعل ذلك لأنه يرأس المنظمة الدولية للمرة الثانية والأخيرة، ولم يعد يخشَ اي فشل في التجديد له، بعكس ما حصل مع الأمين العام السابق بطرس غالي الذي دفع ثمن مناصرته لأطفال مجزرة قانا عام 2006، فكان عقابه مغادرة المنظمة بعدما حذّرته وزيرة الخارجية الأميركيّة مادلين أولبرايت من عدم التجديد له لدورة أخرى.
تستهل الجمعيّة العامة الأسبوع المقبل بـ"قمة المستقبل"، في 22-23 أيلول الجاري. وأي مستقبل هو هذا؟
أهو مستقبل الدول التي لم تنفّذ خطط العمل المناخي الوطنية بشكل كافٍ للحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئويّة، وتحقيق أهداف اتفاق باريس؟.
أيّ مستقبل هو هذا؟ والدول الكبرى تهدّد بعضها بالنووي الفتّاك. مستقبل مُظلم في ظلّ استحالة اتّفاق دولي لوقف الصراع بين اوكرانيا وروسيا المندلع منذ سنتين، وفي ظلّ توتر مع الصين في المحيط الهادئ، وبين الكوريّتين واليابان، وفي غزّة التي أبكت العالم دموعاً ودماً، وفي السودان الجائع والمقسوم، وسوريا التي لم تعد موحّدة، والصراع بين ارمينيا واذربيجان، ومشاكل منطقة الساحل الإفريقي، وأزمة الـ208 مليون نسمة الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم؟ أجل، أي مستقبلٍ حين تعمل إسرائيل جاهدة على توريط الولايات المتحدة في حرب واسعة في الشرق الأوسط بعد أن صار حلّ الدولتين في المنطقة أرشيفاً في أدراج الأمم المتحدة؟.
أي مستقبل، ومن المستحيل ان تتفق الدول الكبرى على وقف حرب؟ من المستبعد ان تقدر هذه الدول على رسم خرائط جديدة كالتي تلوّح بها الولايات المتحدة -الشرق الأوسط الجديد- لأن الدول غير متّفقة في ما بينها، على عكس ما حصل في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فأوروبا اليومَ قلقة على نفسها، وخائفة بعضها من بعض.
أي مستقبل، والدول تعمل على تعزيز ترسانتها النووية وتتباهى بنوعية الصواريخ التي تملكها؟ إنه مستقبل مُنذِر بالصراعات، لأنه يفتقر الى السلام. فعندما يغيب السلام، فلا تطور ولا ازدهار ولا صحة نفسيّة وجسديّة، ولا حتى تفكير بخططٍ لمواجهة التغيير المناخي.
يبدو أننا على أبواب حروب كبيرة، عسكرية واقتصادية وبيولوجية... ومن ينتصر يكتب التاريخ!.
الأمم المتّحدة، نيويورك