يا لهذا الهراء، المسيحيُّون يفتخرون بأداة قتل وهي الصليب. نعم نحن نقول مع بولس الرسول: «وأمَّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلَّا بصليب ربِّنا يسوع المسيح، الَّذي به قد صُلِبَ العالَمُ لي وأنا للعالم» (غل 6: 14).
الذي يعي هذه الآية بحقٍّ يدرك ما أتمَّه الربُّ يسوع المسيح بملء إرادته، هو الَّذي أعلن لتلاميذه أنَّه صاعد إلى أورشليم ليُقتَل ويقوم في اليوم الثالث[1].
فنحن لا نفتخر بالصليب فحسب، بل نسعى إلى أن نُصلَب مع المسيح عملًا بدعوته[2] أن نتبعه حاملين صليبنا، كافرين بأنفسنا لنخلص.
حاشا أن يكون هذا الكلام حبًّا بالألم أو تقديسًا له أو إذلالًا، بل على العكس تمامًا، هو التغلُّب على الألم القاتل والمميت الَّذي هو الأهواء المعيبة المعشعشة في عمق نفوسنا الّتي تذلّنا، لنقوم مع المسيح خليقة جديدة.
وإذا سألنا ما معنى الافتخار بالصليب يأتينا الجواب من الربِّ يسوع المسيح نفسه: «لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة» (يوحنَّا 3: 16).
إذًا هو الافتخار بمحبَّة الله لنا، بتدبيره الإلهيِّ: صيرورته إنسانًا واتِّحاده فينا. هذا أعظم حبٍّ في العالم، أن ينزل الخالق إلينا ليرفعنا إليه. لهذا، فالمسيحيَّة ليست دينًا، ولا قوانين ولا شرائع، بل هي محبَّة، وتُفهَم بالمحبَّة، وتُعاش بالمحبَّة، لأنَّ الله محبَّة وأوصانا بالمحبَّة لبعضنا.
لهذا، فالصليب أيقونة المحبَّة، لا بل الأيقونة بأل التعريف، ومع يسوع تحوَّل من رمز للاحتقار إلى علامة افتخار، ومن انكسار إلى انتصار، انتصار الحياة على الموت.
من هنا نجد أنَّ الصليب كان من أولى الرموز الَّتي استعملها المسيحيُّون من القرون الأولى للتعبير عن إيمانهم.
في مقالة منشورة على موقع (CPX[3]) يشرح البروفسور المتخصِّص في لغة العهد الجديد But Larry Hurtado أنَّ علامة الصليب كانت موجودة في برديَّات العهد الجديد، بحيث استبدل الكتبة كلمة «صليب» باليونانية Stavros بحرفين يونانيَّين هما T وP ووضعوهما فوق بعضهما فأصبحا يشبهان رجلًا على الصليب، ناشرًا قطعة برديَّة (P75) من إنجيل لوقا تعود إلى العام 200. ويدعى هذا الشكل «staurogram stavrogram/ » لكون كلمة stavrós باليونانيَّة تعني «الصليب».
تمسُّك المسيحيِّين بعلامة الصليب كان صلبًا جدًّا لا يتزعزع، وهذا أصلًا واضح جدًّا بقول بولس الرسول: «نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا!» (1 كورنثوس 1: 23).
ترى ما هي ثمار الصليب في حياتنا المسيحيَّة؟
الجواب الأوَّل هو نكران أنانيَّتنا، والانفتاح على محبَّة الربِّ والامتلاء منها. هذه المحبَّة الَّتي ترفع وتجمع. ترفع من الأرض إلى السماء بخشبة الصليب العموديَّة، وتجمع بخشبته الأفقيَّة. ولقاء الخشبتين هو الربُّ الضامُّ الجميع إلى قلبه كما قال يسوع: «وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع» (يوحنَّا 12: 32). فعل الارتفاع هنا هو الصلب[4].
مشتهى قلبه أن ينجذب الجميع إليه لأنَّه أتى إلى الجميع، لكنَّ محبَّة الصليب تلزمها شجاعة، شجاعة المحبِّ والثقة في الربِّ بأن يقبل تعرِّي الإنسان بالكلِّيَّة أمامه كاشفًا له عن ضعفاته وخطاياه، فيصلبها يسوع ويميتها ويقيم المتقدِّم إليه إنسانًا جديدًا.
وإن تردَّدَ أحدُنا فليتذكَّر أنَّ كلَّ شيء مكشوف أمام الربِّ وهو يعرف كلَّ مكنونات القلوب وخفايا الإنسان، ولكنَّه ينتظرنا أن نأتي إليه بملء إرادتنا لكي يكون شفاؤنا حرًّا وليس عنوةً، ونعبر بالصليب إلى قيامة مجيدة، لهذا نرتِّل مصلِّين: «لصليبك يا سيِّدنا نسجد ولقيامتك المقدَّسة نمجِّد».
قبل ختم المقالة نتوقَّف مع شكل صليب معروف بالصليب الروسيِّ منذ القرن السادس عشر، ولكنَّه في الحقيقة قديم جدًّا من القرن السادس الميلاديِّ. هو كناية عن صليب له خشبة في الأسفل تحت القدمين، جهتها اليمنى مرتفعة وجهتها اليسرى منخفضة. الجهة اليمنى تشير إلى التائب أحد المذنبَين اللذين صُلبا معه (لوقا 23: 32)، ويقال[5] إنَّه كان يدعى Dismas، بينما الجهة اليسرى تشير إلى المذنب الآخر وكان يدعى Gestas.
كلُّنا خطأة ومذنبون أمام الربِّ وصلاحه، والتوبة الصادقة وحدها تحيينا من جديد.
إلى الربِّ نطلب.
[1]. "مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ." (متّى 21:16).
[2]. "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا." (متى 24:ذ16-25)
[3]. The Centre for Public Christianity - 16 April 2014
[4]. " قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ." (يوحنا 33:12)
[5]. إنجيل نيقوديمس المنحول ومعروف أيضًا بأعمال بيلاطس – القرن 4-5 الميلاديّ.