لا جديد على خطّ الاستحقاق الرئاسي الذي يحتفل خلال أيام قليلة، بذكرى مرور عامين كاملين على موعده الدستوريّ المفترض، الذي تجاوزته القوى السياسية وقفزت فوقه بكلّ بساطة، كما تتجاوز الكثير من القوانين من دون أن يرفّ لها جفن، بانتظار توافق أو تفاهم أو تقاطع متعذّر، أو بانتظار متغيّراتٍ يُعتقد أنّها ستترتّب على الحروب المتنقّلة في المنطقة، أو ربما قبل هذا وذاك، بانتظار كلمة سرّ خارجية، لم تأتِ على جري العادة.
رغم هذه الصورة "السوداوية"، ثمّة حركة سياسية تُرصَد في الكواليس، فاللجنة الخماسية بشأن لبنان، التي تضمّ فرنسا والولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر، أدارت محرّكاتها من جديد، بعد اللقاء الذي جمع أخيرًا في الرياض كلاً من الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، والمستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، المكلّف بالملف اللبناني في الإدارة السعودية، ولو أنّ شيئًا "ملموسًا" لم يظهر بعد هذا الاجتماع.
وفيما يرتقب أن يترجم هذا "الإنعاش" على خطّ "الخماسية"، من خلال تحرّك جديد لسفرائها في بيروت، ولا سيما بعدما التمّ شملهم من جديد، يُحكى في الأوساط السياسية عن زيارة جديدة مرتقبة للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، الذي غادر لبنان "خائبًا" في شهر أيار الماضي، حين جاء مكلّفًا من الرئيس إيمانويل ماكرون، تحضيرًا للقمّة التي جمعت الأخير بالرئيس الأميركي جو بايدن، والتي لم تُحدِث بدورها أيّ "خرق".
إزاء ما تقدّم، ثمّة العديد من علامات الاستفهام التي تُطرَح حول مغزى حراك "الخماسية" المتجدّد، والأساس الذي تنطلق منه عمليًا، فهل يمكن الحديث فعلاً عن "خرق" في الأفق، أم أنّها مجرّد "محاولة" أخرى لن يُكتَب لها النجاح، طالما أنّ المواقف الداخلية لا تزال تراوح مكانها، وهل تصحّ الفرضية القائلة بأنّ الحراك المتجدّد سينطلق من المبادرة "المعدّلة" لرئيس مجلس النواب، ليدعو المعارضة إلى ملاقاته في منتصف الطريق؟!
الأكيد، بحسب ما يقول العارفون، أنّ تجدّد حراك "الخماسية" لا ينطلق من متغيّرات فعليّة على الأرض، بقدر ما ينطلق من اهتمام المجتمع الدوليّ بتحريك الملفّ الرئاسي، لأنّ المراوحة على خطّه تكاد تكون "قاتلة"، خصوصًا في ضوء الترتيبات لما يصطلح على وصفه بـ"اليوم التالي"، والتي ينبغي أن يكون لبنان جزءًا منها، علمًا أنّ التنسيق السعودي-الفرنسي أوصى إلى خلاصة بوجود "فرصة سانحة" حاليًا لإحداث "خرق"، لا بدّ من اغتنامها.
ولعلّ هذا الاهتمام الدبلوماسي تجلّى من خلال الزيارة التي قام بها مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى لبنان هذا الأسبوع، التي وُصِفت بـ"الوداعية"، ولو أنّها تركّزت على الوضع الأمنيّ، من بوابة التصعيد في الجنوب، حيث دعا المسؤول الأوروبي إلى تخفيف حدّة التوترات، وأكّد أنّ الاتحاد الأوروبي يبذل كلّ الجهود الدبلوماسية الممكنة لمنع التصعيد في المنطقة، إلا أنّه لا يملك "عصا سحرية" لضمان ذلك.
ويقول العارفون إنّ زيارة بوريل، وإن لم يكن الاستحقاق الرئاسيّ محورها الأساسيّ، إلا أنّها جاءت لتعكس الاهتمام الغربي بالوضع في لبنان، علمًا أنّ الرئاسة والأمن مرتبطان بصورة أو بأخرى، ولو أصرّت القوى السياسية على "الفصل بينهما" في التصريحات العلنية، خصوصًا أنّه لم يعد خافيًا على أحد أنّ المجتمع الدولي يريد التسريع بانتخاب رئيس، حتى يكون الأخير حاضرًا في أيّ مفاوضات بات محتّمًا أنّها ستجري عاجلاً أم آجلاً.
بهذا المعنى، فإنّ تحرّك "الخماسية" المتجدّد، بالتوازي مع الحركة الدبلوماسية الغربية المكثّفة باتجاه لبنان، يمكن أن يُفهَم على أنه "رسالة ضغط" على القوى السياسية بضرورة التصدّي للمسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وتسهيل عملية انتخاب الرئيس، خصوصًا أنّ هذه القوى لا تُظهِر أيّ "جدّية" في هذا المسار، بل إنّها باتت "تطبّع" مع الفراغ الرئاسي، كما لو أنّ وجود رئيس ليس ضروريًا، ويمكن تسيير كلّ شيء من دونه.
لكن، أبعد من الاهتمام الدبلوماسي الغربي بلبنان، الذي يترجمه تجدّد حراك "الخماسية"، قد لا يكون ثمّة أساس صلب في الداخل يوحي بإمكانية إحداث "خرق"، فحتى المبادرة "المعدّلة" لرئيس مجلس النواب التي يقول البعض إنّها قد تشكّل "نقطة الانطلاق" في المرحلة المقبلة، تصطدم برفض المعارضة، التي تتقاطع أوساطها على وصفها بـ"المناورة"، ولو أنّ هناك من يعتقد أن الرهان قد يكون على الكتلة "الوسطية" الآخذة بالاتساع أكثر فأكثر.
فعلى الرغم من أنّ المحسوبين على رئيس مجلس النواب يتحدّثون عن "تنازلات جوهرية" قدّمها في معادلته "المعدّلة"، بعدما خفّض مدّة التشاور أو الحوار إلى "بضعة أيام"، أي أقلّ من خمسة، وبعدما تخلّى عن "الفيتو" الذي كان يضعه على مبدأ "الجلسة المفتوحة"، منعًا لتعطيل الدور التشريعي لمجلس النواب، فإنّ خصوم الأخير يعتبرون أنّ المرونة التي أظهرها "شكليّة"، ولا قيمة لها، طالما أنّها لا تمسّ الجوهر، وهو الإصرار على حوار مفصول عن الانتخاب.
إلا أنّ العارفين لا يستبعدون أن تنطلق "الخماسية" من هذه المبادرة "المعدّلة"، لمحاولة تقريب وجهات النظر، بالتنسيق مع كتلة "الاعتدال" التي سبق أن حقّقت "خرقًا" ولو محدودًا، وربما بالتنسيق مع كتلة "وسطية" أوسع، يعمل النواب الخارجون من "التيار الوطني الحر" على بلورتها، بحيث تشكّل "بيضة القبان" في الاستحقاق الرئاسي، ولو أنّ المعارضة تستبق كلّ ذلك برفض "إحراجها"، فالتشاور مقبول "على هامش" جلسة الانتخاب، وليس بمعزل عنها.
استنادًا إلى ذلك، ثمّة من يسأل عمّا إذا كان لودريان مستعدًّا لـ"مغامرة جديدة" في لبنان، بعد كلّ "الخيبات" التي مني بها على امتداد زياراته السابقة، والتي لم يحقّق فيها أيّ "خرقٍ" يُذكَر. يقول العارفون إنّ هذه الزيارة مطروحة بالفعل، لكنّها مؤجَّلة، بانتظار ما سيترتّب على حراك السفراء بالدرجة الأولى، لأنّ الموفد الفرنسي يدرك أنّ أيّ "فشل" جديد لن يكون لصالحه، بل قد يقضي على المبادرة الفرنسية برمّتها، ويبدّد محاولات باريس تكريس نفوذها "الضائع".
هكذا، تبقى الصورة العامة "ضائعة" بين قناعة المجتمع الدولي بوجوب فعل شيءٍ ما، ورهاناته على مرونة من هنا أو ليونة من هناك، وبين إصرار الأفرقاء في الداخل على عدم تقديم أيّ تنازلات تتجاوز الشكل، ولو أنّهم يعرفون سلفًا بأنّ مواقفهم هذه تشكّل "تطبيعًا" مع الفراغ، طالما أنّها لن تؤدي إلى الانتخاب، وكأنّ كلاً منهم يريد أن يلاقيه الآخر لا في منتصف الطريق، بل في قارعتها، مسلّمًا بشروطه ومطالبه، وهو ما لا يبدو واردًا بطبيعة الحال!