على إمتِدادِ لبنانِ وَعُمقِهِ الى أقاصِيَ مَدائِنِهِ الطالِعَةِ مَنهُ على مَسالِكَ شُطآنِ المَسكونَةِ وأعمَاقِها، النُزوعُ الى اللامُتناهي وجودِيَّاً، بَعيداً عن الإرتيابِ، قوَّةُ لاهوتِ الحاضِراتِ-الدُوَلِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ، بِوَجهِ إنغِمارِ خَلقِ أُلوهَةٍ على صورَةِ الحُكَّامِ وَمِثالِهِمِ لِفَرضِ التَسَلُّطِ وَعِبادَةِ الذاتِ على بُسَطاءِ الأرضِ وأنقيائِها.
وعلى إمتِدادِ العالَمِ القَديمِ، النَقيضُ هو السائِدُ مِن جَلجامِشَ السومَرِيِّ الى الإلياذَةِ والأوديسيه المُتأغرِقَتَينِ والمَهابهاراتا والرَمايانا الهِندوسِيَّتَينِ وأُغنِياتِ Nibelungenlied نيبيلونغِنليدَ الألمانِيَّةِ والإيدّاسَ الفِنلَندِيَّةِ... وَحَتَّى نوحَ العِبرانِيَّ...: سَردِياتُ آلِهَةٍ عُنفِيَّةٍ غِوايَتُها مُعاقَبَةُ البَشَرِ لَلرُضوخِ الى لامَنطِقِ بَطشِها، تَتَصارَعُ وآلِهَةٍ أعنَفَ والغَلَبَةُ لِعُنفِ عَداوَةٍ مَفروضٍ على الإنسانِ، هو أساساً فارِضُهُ على أنسِبائِهِ وَمواطِنيهِ والغُرباءَ والآلِهَةِ.
وَكانَ Publius Vergilius Maro فيرجيلُ الرومانِيُّ، المَولودُ في العامِ 70 قَبلَ الميلادِ، المُتَنَعِّمُ بِرِعايَةِ أُغُسطُسَ قَيصرِ. فَإذ شاءَ تَكريسَ تَفَوُّقِ العِرقِ اللاتينيِّ على الآخَرينَ، إستَلَبَ الإلياذَةِ والأوديسيه وَدَنَّسَ رَمزِيَّةَ إليسارَ بِنتَ صورَ، مُؤَسِّسَةُ قَرطاجَةَ (المَدينَةُ-الجَديدَةُ، صورُ-الجَديدَةُ) وَمَلِكَتُها.
أفي المُخادَعَةِ، تَألُّقُ الحَقيقَةِ؟
مَلحَمَتُهُ اللامُكتَمِلَةِ، مِن 9896 بَيتًا مِنَ الشِعرِ السُداسِيِّ التَفعيلَةِ، Aenē̆is "الإنياذَةُ"، رَوى فيها هُروبَ الأميرِ Αἰνείας Aeneas اينياسَ بِنَ بريامَ مَلِكِ طِروادَةَ، قُبَيلَ سُقوطِها العامَ 1200 ق.م. وَقَسَمَها لِنِصفَينِ: الأناشيدُ I-VI (رِحلَةُ إينياسَ إلى لاتيوم-روما) الناسِخَةُ الأوديسيه، والأناشِيدُ VII-XII (الحَربُ في لاتيومَ) الناسِخَةُ الإلياذَةَ. كِلاهُما يُعلِيانِ اينياسَ-الهَلوعَ بَطَلاً قَومِيَّاً لاتينِيَّاً، بَل نَموذَجَاً لِأداءِ الواجِبِ الرومانِيِّ -كَذا!-.
وَما إستَكفى. ها النَشيدُ IV، أطوَلُ النَشائِدَ، يَروي صِراعَ اينياسَ والآلِهَةَ المُلاحِقَةَ لَهُ، والعاصِفُةَ التي رَمَتهُ مُدمىً على شاطِىءَ قَرطاجَةَ، حَيثُ بَلسَمَت إليسارُ جِراحَاتِهِ لِيَستَعيدَ الحَياةَ. فَيوهِمُ أنَّ الإلِهَةَ جونو عَقَدَتِ إتِّفاقاً والإلَهَةَ فينوسَ والِدَةَ اينياسَ، لإلهائِهِ عَن قَدَرِهِ بِتأسيسِ روما. فَنَزَعَ لِعِشقِ إليسارَ... وَوَصَلَت إلى المَلِكِ يارباسَ الذي صَدَّتهُ إليسارُ وَفاءً لِزَوجِها الشَهيدِ الصورِيِّ-الُلبنانِيِّ، شائِعَةُ زَواجِها مِن اينياسَ، فَتَضَرَّعَ إلى أبيهِ الإلَهِ جوبيترَ لِمُعاقَبَتِها... وَيُرسِلُ جوبيتِرُ ميركوري مُذَكِّراً اينياسَ بِواجِبِهِ. فَيَهرُبُ مَرَّةً جَديدَةً. وإذ إكتَشَفَت إليسارُ ما جرى، قَتَلَت نَفسَها بِطَعنِ قَلبِها بِسَيفِ اينياسَ فَوقَ مِحرَقَةٍ.
الشَهادَةُ التامَّةُ المُتَمِّمَةُ
تَدنيسُ إسمَ إليسارَ وَذِكرَها وَذَبيحَتَها، أوغَلَ فيهِ فيرجيلُ. لَكِنَّ مُخادَعَتُهُ الناسِفَةُ الحَقيقَةَ فَضَحَتهُ، إذ تَصرُخُ إليسارُ شِعراً في إنياذَتِهِ:
"ها فَقَدتُ ما وَحدَهُ يُساويني بِالآلِهَةِ: سُمعَتي!
فَلأَمُت، مِن غَيرِ إنتِقامٍ.
يا لِطيبِ إنحِدارِيَ لِمَثوى الأمواتِ!
وَلِتَنظُرَالآلِهَةُ الطاغِيَةُ مِن عَليائِها الَّلهيبَ يَلتَهِمُني..."
وَهُناكَ في المَثوى... تَتَّحِدُ إليسارُ بِزَوجِها الُلبنانِيِّ-الصورِيِّ الشَهيدِ.
أميرَةُ صورَ، شَهيدَةُ وَفائِها، غَلَبَت فيرجيلَ. وَهو، وإن شَوَّهَ بُطولَتَها، لَم يُذوِ شَرَفَها.
هي نَفَذَت لِعُمقِ السِرَّينِ الإلَهِيِّ والإنسانِيِّ بِبُلوغِ جَوهَرِ الحَقيقَةِ المُتَخَطِّيَةِ العَقلَ وَمُحاوَلاتِ أسرِهِ. رَجاؤها لُبنانِيٌّ قيامِيٌّ.
مِن هَذا التأصيلِ، شَهادَةٌ إلَهِيَّةٌ تامَّةٌ أنَّ اليَقينَ يَزدادُ بِوجودِ اللهِ-الحَقِّ حَيثُ الحُرِيَّةُ والأُلوهَةُ-الحَقيقِيَّةُ وَجها الحَقيقَةِ عَينِها، فَلا يَقومُ وَجهٌ مِن دونِ الآخَرِ. وَهي شَهادَةٌ إنسانِيَّةٌ مُتَمِّمَةٌ تَتَضاعَفُ ثُبوتاً أمامَ التَحَدِيَّاتِ: فَكُلَّما إزدادَ شُعورُ الإنسانِ بِحُرِيَّتِهِ، إزدادَ يَقينُهُ بِوجودِ اللهِ... عَبرَ التَرَسُّلِ لِلحُرِيَّةِ.
بِوَجهِ المُخادَعاتِ وَتَصارُعِ الآلِهَةِ والمُستألِهينَ المُدَمِّرينَ والهارِبينَ والمُحتَلِّينَ، هي تَشهَدُ أنَّ اللهَ مُعطيَ الحَياةِ، لأنَّهُ مُعطيَ اللهَ. وَهَذا لا يَتَجَوهَرُ إلَّا في الوجودِ بِكيانِيَّةِ المَوتِ... لِلإنتِصارِ عَلَيهِ.
أأدرَكَ فيرجيلُ جَسامَةَ مُخادَعَتِهِ، فَطَلَبَ قُبَيلَ وَفاتِهِ إحراقَ الإنياذَةَ؟... لَكِنَّ القَيَصرَ أُغُسطُسَ تَمَسَّكَ بِها.