تمرّ البلاد بظروف صعبة وصعبة جداً، لناحية تأمين الطبابة والتعليم وغيرهما، وفي هذا الوضع لا يستطيع المرء إلا أن يتوقّف عند المبادرة التي قامت بها بطريركية السريان الكاثوليك، لناحية عفو جميع الطلاب السريان من الأقساط في مدرستَي ليسيه المتحف في بيروت ودير الشرفة في حريصا. هذا الموقف يدفعنا إلى السؤال: لماذا تستطيع بطريركية السريان الكاثوليك القيام بهكذا مبادرة، بينما البطريركية المارونية وغيرها من البطريركيات الكاثوليكيّة تقف متفرّجة على الرعيّة وهي تنزف بمتوسّطي دخلها الّذين أصبحوا فقراء والفقراء منهم أصبحوا مُعدَمين، والرعيّة تعاني جرّاء الارتفاع الهائل المنفوخ للأقساط الذي أصبح جنونيًّا؟!.
جنون في الاقساط...
نعم، قد تكون المدارس الخاصة والكاثوليكيّة خصوصاً من الأفضل في التعليم، لكن الواضح أن ما يحصل بداخلها يدلّ على أن ما يريدونه هو أن يكون التعليم فقط لأغنى الأغنياء، هذا في وقت لم يعد هناك في لبنان مدرسة متوسطّة. سميرة (إسم مستعار) أمّ لثلاثة أولاد كانت تعيش وزوجها وعائلتها بهناء كأيّ عائلة "مستورة"، تكتفي بما تجنيه لتعليم أولادها وتأمين حياة كريمة لهم، فجأة "بَرَمَ دولابها" عندما انلعت ما اصطُلِح على تسميته بالثورة. إذ تشير، عبر "النشرة"، إلى "أنا وزوجي من موظّفي الدولة وكان راتب كل منا يصل إلى حوالي الالف دولار وأكثر، وقد قرّرنا أن نضع أطفالنا في مدرسة Mont la sale""، وتشرح أنه "قبل الأزمة وصل قسط الولد الواحد منهم إلى حوالي 5000$ بعد سلسلة الرتب والرواتب التي وضعتها الدولة".
وتلفت سميرة إلى أنه "نظرا لكونها وزوجها يعملان في القطاع العام كانا يحصلان على مساعدة مدرسيّة، وكل ذلك قبل احتجاجات عام 2019، وكانا يستطيعان تلبية الأمور المنزلية والمدرسيّة"، وتضيف: "في العام 2020 قدمنا طلباً للحصول على المساعدة الفرنسيّة وحصلنا على جزءٍ منها، بمبلغ 200$ اضافة الى جزءٍ بسيط بالليرة، وفي حينها القسط لم يتعدَّ هذا المبلغ"، لتعود وتشير إلى أنه "في العام 2022 ارتفع إلى 350$ على الولد، ثم في العام 2023 إلى 1400$، بالإضافة إلى 20 مليون ليرة لبنانية، ومن ثم إلى 2650 دولار، بالإضافة إلى 40 مليون ليرة في العام 2024، وكل الاقساط التي وُضعت تحمل إشارة "الاقساط الموقّتة"، بما معناه أنه يمكن أن ترتفع خلال العام".
مساعدة بـ15 مليون دولار؟
حسناً، فلنقم قليلاً بالمقارنة بين هذه الارقام وما تقوم به المرجعيّات المارونية على مختلف أطيافها وتفرعاتها، بدءًا باتّحاد المدارس الكاثوليكية النائم والغافل عن مشاكل الأقساط المجنونة، وبين قامت به بطريركية السريان الكاثوليك، ولماذا لا تقوم المدارس الخاصة والكاثوليكية بمبادرة بسيطة للوقوف إلى جانب الناس؟. هذه أسئلة كلها حملناها إلى الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب يوسف نصر الذي لم يكن أبداً مقنعاً في أجوبته. إذ يشير إلى وجود "الكثير من المبادرات التي قمنا بها، وكل المساعدات التي تأتي، والتي بلغت قيمتها حوالي 15 مليون دولار، حولت إلى مساعدات لتعلّم الناس أولادها" ولكن كيف صُرِفَت هذه المبالغ على التعليم لا أحد يعلم.
ويرى الأب نصر أننا "نتطلع إلى نوعية معيّنة من المدارس، وأتفهم أن النسبة الأكبر الموجودة على الساحة أقساطها مرتفعة نسبة لغيرها، ولكن هناك 60% من المدارس الكاثوليكية لا تزال أقساطها دون 1000$"، على الرغم من أنّ ما قامت به "النشرة" من احصاء يبيّن جوابًا مغايِرًا لما قاله الأب نصر تماما.
لا تصريح
كلّ هذا الكلام جيّد ولكن ليس هذا ما نراه على أرض الواقع، وهذا ما دفعنا إلى سؤال الأب نصر عن سبب عدم التصريح عن الدولار بالاقساط في الموازنة، خصوصاً في ظلّ الكلام عن أرباح طائلة تجنيها المدارس؟، فإذ به يجيب "من يتحدث عن أرباح طائلة ليس على اطلاع بسير الأمور الداخليّة ولا يعرف عواقب التصريح بالدولار في الموازنة"، ليعود ويؤكد أن "المدارس مضطرّة أن تدفع للموظفين والرواتب بحسب سلسلة الرتب في الدولة، وما يتبقّى هو مساعدات".
فإذا كان هذا هو أحد الأسباب أو السبب الذي يمنع ذلك، فإذا على أيّ أساس تقوم المدارس بالاحتساب لوضع الاقساط، ومن يراقب التطبيق، ومن يدقّق؟. على الأرجح ان ما أكّده عضو لجنة التربيّة النيابية القسّ ادغار طرابلسي، عبر "النشرة" أن "هناك مدارس أصبحت أقساطها جداً مرتفعة وهم لا يريدون رقابة تقريرية للجان الأهل ولا وضع الاقساط"، هو الّذي يكشف خُبث ما تفعله بعض غالبيّة المدارس مشدداً في نفس الوقت على أن "هناك غياب كامل لوزارة التربية، التي تراعي أصحاب الرخص، وباتت لا تدقّق بحسابات المدارس".
قد يكون ما قامت به بطريركية السريان الكاثوليك جيّد جداً، والبعض يقول إنها استطاعت لأن لديها مدرستين فقط بينما لدى الموارنة حوالي الثلاثمئة مدرسة. نعم هذا هو الصحيح، ولكن البطريركية المارونية ومعها جميع البطريركيات الكاثوليكيّة هي عملياً غنيّة جدًّا بمواردها وأوقافها وتأتيها الهبات والمساعدات، وبالتالي بامكانها أن تقدم شيئاً بسيطاً وتساهم للوقوف إلى جانب شعبها ورعيتها، وحتى اليوم المشهد القائم هو غياب المساعدات في هذا المجال، في ظلّ هجرة كبيرة للعائلات والشباب للتعلّم في الخارج، مع التذكير بما فعلته الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة عندما قامت برهن جميع أملاكها لمساعدة جميع اللبنانيين خلال فترة المجاعة الكبرى التي ضربت لبنان في الحرب العالمية الأولى، تحديدًا بين عامي 1915 و1918. وكانت هذه الخطوة جزءًا من جهود الرهبانية لدعم الشعب اللبناني بمختلف طوائفه في مواجهة الظروف القاسية التي كانت تعصف بالبلاد آنذاك.