سواء صُنّفت "عدوانًا غادرًا وواسعًا"، كما وصفها "حزب الله" في بياناته المتلاحقة، أو "إجرامًا متماديًا وموصوفًا" كما جاء في مقرّرات جلسة مجلس الوزراء، أو "جريمة حرب" تتطلب "تحركًا عاجلاً للجم آلة الإرهاب الإسرائيلي"، بحسب تعبير رئيس مجلس النواب نبيه بري، فإنّ الثابت الذي لا جدال فيه أنّ ما اصطلح على تسميتها بتفجيرات "البيجر" التي استهدفت أجهزة اتصال يحملها عناصر "حزب الله"، لا يمكن أن تكون مجرّد اعتداء "عابر" في المواجهة.
فالتفجيرات غير المسبوقة، لا في الشكل ولا في المضمون، ولا من حيث الفاتورة البشرية الباهظة التي كلّفتها، بدت عصيّة على الاستيعاب للوهلة الأولى، لدرجة أنّ الحديث في الإعلام بقي لفترة طويلة عن "حدث أمني غير واضح المعالم"، بل إنّ "حزب الله" نفسه وصفها في بيانه الأولي، والذي جاء بعد ساعات على حدوثها، بـ"الانفجارات الغامضة الأسباب حتى الآن"، وهو ما يمكن أن يفسّر حجم "الصدمة" التي انطوت على ما حدث، على كلّ المستويات.
قد لا يكون في ذلك مبالغة، فما جرى فاق كلّ التوقعات والتقديرات، بل إنّه بدا أقرب إلى الأفلام، ولو جاء مسبوقًا بموجة تكاد تكون غير مسبوقة أيضًا من التهديدات الإسرائيلية المكثّفة التي وصلت في الأيام القليلة الماضية إلى أوجها، إذ لم يكن أحد يتخيّل في أكثر السيناريوهات سوداوية، أن تحصل تفجيرات متزامنة على امتداد الأراضي اللبنانية كالتي حصلت عصر الثلاثاء، ويصاب الآلاف بنتيجتها، في دقيقة واحدة، لا بل في ثانية واحدة.
وأبعد من الصدمة التي خلّفتها تفجيرات البيجر، فإنّ الواضح بحسب كلّ القراءات، أنّها انطوت على خرق عدّه كثيرون الأخطر على الإطلاق، ليس منذ فتح جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي، بل في تاريخ "حزب الله"، ولو حاول الأخير احتواءها، وتوعّد بـ"القصاص العادل" وفق قوله، فإلى أيّ حدّ يمكن أن تشكّل تفجيرات البيجر نقطة تحوّل في المواجهة، وهل يمكن أن تكون مقدّمة للحرب الشاملة، كما يخشى كثيرون؟!.
في المبدأ، لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ ما جرى يُعَدّ تصعيدًا خطيرًا في مسار المواجهة، ليس فقط من الناحية النفسية، باعتبار أنّ إسرائيل حقّقت من خلاله، بالتكنولوجيا وبدقيقة واحدة، ما لا تستطيع تحقيقه في الميدان خلال حرب تقليدية طويلة الأمد، ولكن أيضًا على مستوى قواعد الاشتباك والخطوط الحمر، فما حصل قرع ناقوس الخطر داخل جسم "حزب الله"، لما انطوى عليه من مسّ لشبكة الاتصالات الداخلية، وهو ما سيتطلب مراجعة غير بسيطة.
فبغضّ النظر عن الفرضيّات والسيناريوهات التي يتمّ تداولها حول حقيقة ما حصل، والتي تبدو محدودة وفق ما يقول الخبراء التقنيون، ومن بينها أن يكون "تفخيخ" أجهزة الاتصال قد جرى قبل وصولها إلى لبنان، وهو ما يفترض أن يحسمه التحقيق، إلا أنّ ما حصل يُعَدّ "خرقًا" في كلّ الأحوال، لن يكون بوسع "حزب الله" التقليل من وقعه، باعتبار أنّ إسرائيل تمكّنت من التلاعب بشحنة الأجهزة الخاصة به، وهذا لا يمكن أن يكون أمرًا عابرًا أو عاديًا.
من هنا، تبرز خطورة ما جرى، معطوفًا على حالة التوتر القائمة أصلاً على خط الجبهة المفتوحة، إذ يؤشر إلى دخول نمط جديد من الحرب، قد يكون أخطر من كلّ ما سبق، وهو نوع الحرب السيبرانية والتكنولوجية، ليس فقط لأنّ الجانب الإسرائيلي قد يكون متفوّقًا فيها، بالاستناد إلى الخبرة التي راكمها، والدعم الذي يحظى به، ولكن لكونها بكلّ بساطة مفتوحة على كلّ المفاجآت التي لا يمكن احتسابها، ولا توقّعها، تمامًا كما حصل في تفجيرات البيجر.
وأبعد من خطورة ما جرى على كلّ المستويات، فإنّ الحديث عن التداعيات يعيد طرح إشكاليّة "الحرب الشاملة" نفسها، في ظلّ وجهة نظر تقول بأنّ إسرائيل تريد فعلاً أن يكون ما جرى مقدّمة لهذه الحرب، عبر جرّ "حزب الله" إلى ردّ قويّ يشكّل ذريعة مباشرة لها، ولا سيما أنّها تحضّر الأرضية منذ أيام لمثل هذا السيناريو، في مقابل رأي آخر يقول إنّ ما جرى قد يكون "كافيًا" في الوقت الحاليّ، بما حمله من رسائل "قوة وردع".
ولعلّ ما يعزّز وجهة النظر الأولى، الميّالة إلى تبنّي خيار الحرب، يستند إلى الأجواء المشحونة أصلاً منذ أيام، مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بشكل غير مسبوق، بل الحديث عن خلافات في قلب الحكومة الإسرائيلية محورها لبنان، وصولاً إلى التسريبات عن توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإقالة وزير دفاعه يوآف غالانت، لكون الأخير "العائق الأكبر" أمام المضيّ في التصعيد ضدّ لبنان، وفق ما يقال إسرائيليًا.
في هذا السياق، يتحدّث العارفون عن احتمالات مفتوحة، فما حصل يمكن أن يكون مقدّمة لما هو أكبر وأوسع، بل إنّ بعض التسريبات أشارت إلى أنّ المخطط الأساس كان بالفعل أن يكون هذا الهجوم هو ضربة "افتتاحية" للحرب، مستندين إلى أنّ ما حصل يشكّل "إضعافًا" للحزب في مكان ما، وبالحدّ الأدنى عامل "إرباك" له، في ظلّ انشغاله باستيعاب ما جرى، وهو ما يمكن أن يكون التوقيت "الأمثل" لإسرائيل للمبادرة للحرب.
لكن في مقابل هذا الاعتقاد، ثمّة من يرى أنّ إسرائيل التي لم تحصل على "الغطاء الأميركي" للمبادرة إلى الحرب، ولو أنّها أبلغت وفق التسريبات المبعوث الأميركي آموس هوكستين خلال زيارته الأخيرة، بأنها ستمضي قدمًا في الهجوم على لبنان، مع انعدام آمال التوصّل إلى تسوية، تريد أن تأتي "الطلقة الأولى" من "حزب الله"، ولذلك فهي ترفع سقف "الاستفزاز" إلى الحدّ الأعلى، من أجل تبرير الدخول بقوة إلى الحرب.
وبين هذا الرأي وذاك، ثمّة من يعتقد أنّ الحرب الشاملة بمعناها التقليدي، لا تزال مُستبعَدة، للعديد من المؤشّرات، من بينها مثلاً حرص إسرائيل على عدم تبنّي الهجوم على أجهزة الاتصال بصراحة، لإدراكها بأنّ ذلك سيكون بمثابة "إعلان حرب"، ومن بينها أيضًا أنّ "حزب الله" وإن توعّد بردّ قوي ومتناسب، لن يستعجل هذا الردّ على الأرجح، وسيسعى كما في المرّات السابقة، إلى "تفصيله" على قياس عدم التسبّب بحربٍ يعتقد أنّ الإسرائيلي يستدرجه إليها.
في النهاية، لا شكّ أنّ تفجيرات البيجر تعبّر عن تصعيد "خطير" في مسار المواجهة، في "سيناريو" لم يكن أحد يتوقعه، ولا شكّ أنه شكّل في مكانٍ ما ضربة قاسية ومؤلمة لـ"حزب الله"، لكن لا شكّ أيضًا أنّ الأخير سيحاول النهوض منها سريعًا، وما إعلانه عن استئناف عمليات إسناد غزة سوى محاولة للقول بأنّه "أجهض" أهداف المجزرة الإسرائيلية، لكن هل يمكن للأمور أن تقف فعلاً عند هذا الحدّ بعد كلّ شيء، أم تصبح الحرب أمرًا واقعًا لا مفرّ منه؟!.