لم يأتِ لبنان يوماً الى الأمم المتحدة رافعاً رأسه إلا عندما شارك بتأسيس المنظمة الدولية عام ١٩٤٥ مع الدبلوماسي والمفكر الكبير شارل مالك. وبعد سنوات قليلة، نشبت فيه صراعات داخلية، حدّدت له هويته الملوّنة بألوان الطوائف، فعاش معظم حياته أسير حقوق المذاهب في سُلطة الموزاييك الطائفي المدمِّر. تغنّى بأنه "وطن الرسالة"، فكان رسالةً لشعبٍ يعيش في مساحة صغيرة مقسّمة "الى أجزاء، وكل جزء فيها يحسب نفسه أمّة"، بحسب وصف جبران خليل جبران.
وبعد سنوات من انضمامه الى الأمم المتحدة، صار لبنان يأتي اليها باكياً شاكياً أحوالَه من جيرانه، يحتار الى جانبِ مَن يجلس في الجمعيّة العامة، ومَن يناصر ومن يعادي ومع مَن يجتمع، لأنّ شعبه ما زال محتاراً بجذور تاريخه، أعربيٌّ هو أم فينيقيّ؟ يتغنّى بفينيقيا ذات الحضارة الصامتة في سجلات مندثرة، مع أنّ أصدق من تعامل معه هم العرب الذين ما زالوا ينتشلونه من فقره ودماره في كل مرّة يتعرّض فيها لعدوان.
واليوم، ونحن على أبواب الجمعية العامة السنويّة، سيحمل لبنان ملفّاته الجديدة القديمة في الصراع مع إسرائيل، ليقف مرة اخرى يشكوها عالياً من على منبر الجمعية العامة، خصوصاً بعد تعرّضه لهجمة سيبرانية، اعتبرها القانون الدولي جريمة حرب موصوفة.
يصل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الى نيويورك للمشاركة في قمة المستقبل التي تنظمها الأمم المتحدة، ولكنه سيغادرها ليترك مهمّة إلقاء كلمة لبنان على عاتق وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، ربما لأنه شعر بإحباط كبير في السنة الماضية، عندما ألقى خطابه في الجمعية بحضور الفراغ الكبير، إذ انّ القاعة كانت شبه فارغة عندما كان يتحدث الى الدول الأعضاء الذين انصرفوا لاجتماعاتهم الخارجيّة والثنائيّة.
ضربة دبلوماسية كبيرة تلقاها لبنان الصغير بحجمه، والكبير بمشاكله. ربما لم يعد العالم يهتم لقضايانا، وهو لطالما سخرَ منها بعد أن وصلت الى حدّ النكات، وذلك عندما اختلف الزعماء اللبنانيون على التوقيت المحلّي للبنان.
لم يعُد يخفَى على أيّ من الدول أنّ قادة لبنان سرقوا مدّخرات شعبه، وراحوا يتسوّلون بإسمه على ابواب الدول، مُستجدين الدواءَ والغذاء والفيول ورواتب الجيش، والسيادة والمناصب من أصحاب النفوذ الدولي. وصلت رائحة لبنان الى نيويورك التي عرضت على الحكومة مشروع التعافي البيئي، لأنّه لا يعرف كيف يتخلّص من نفاياته المنزليَّة... والسياسية.
الوزير بو حبيب سيلقي كلمة لبنان في نهاية ايّام الجمعية العامة؛ وهذه هي السنة الثانية التي يُكملها لبنان بدون رئيس جمهوريّة أو حكومة فاعلة. ولكن إذا نظرنا في السنوات الماضية، لم يكن حضور لبنان غنياً بلقاءاته مع رؤساء العالم. أكثر ما كان يتسنّى له لقاءُ قادةٍ من صفّ الدول الأوروبية مثل كراوتيا واوكرانيا وغيرهما من الدول التي لا تجمعنا بها سوى علاقات سياحيّة والقليل من التجارة، وكان يعجز عن لقاء الكبار مثل وزير خارجية اميركا او بريطانيا. أمّا الدولة التي واظبت على لقاء لبنان فهي فرنسا، "الأمّ الحنون"، التي تحاول ان تُبقي فيه نفوذها ولو ثقافياً.
سوف يشكو لبنان اسرائيل. ولكن "على من تقرأ شكواك يا لبنان"! منذ عقود، والصراعات الدامية تعبث في دول العالم، من العراق وسوريا وليبيا واليمن عربياً، الى اوكرانيا في اوروبا، وأثيوبيا وموزامبيق والصومال وجنوب السودان والسودان في أفريقيا، الى غزّة الدامية، وغيرها من الدول... لائحة طويلة، واجتماعات أطول وصلت الى منتصف الليل في مجلس الأمن، الذي لم يستطع إصدار قرار وقف حرب او حتى بيان يدين المعتدي.
مصائب العالم كثيرة وكبيرة، ومصيبة لبنان صغيرة إذا عرف كيف يصلح نفسه. ما يطلبه المنطق هو التماسك الداخلي في وجه معتدٍ لا يلتزم بالقرارات الدوليّة، ولا يعترف بمحاكِمها؛ معتدٍ سلاحه قوي، في وجه شعب ضعيف الإرادة. المطلوب من لبنان هو الحدُّ الأدنى من التضامن كي يبقى مرسوماً على خارطة الشرق الأوسط. المطلوب منه ان يُخرج الاستعمار السياسي والإستراتيجي، كما فعلت النيجر ومالي وبوركينا فاسو في أفريقيا.
المؤسف ان الشعب اللبناني، الذي اختار ممثليه، ما يبرح يشتمهم ويندّد بقيادتهم في إدارة البلاد. لم يقرأ تاريخ الدول وكيف يعامل بعضُها بعضاً، ولم يقدّر قيمة نفسه كدولة ذات تاريخ نضالي، ولم يتّعظ من تاريخ الشعوب، التي بسببِ ضعفها، جعلت نفسها مسرحاً لتجارب الدول النوويّة والكيميائيّة، مثل فرنسا التي أجرت تجاربها في الجزائر وجنوب المحيط الهادئ، ومثل الاتحاد السوفياتي السابق الذي جرّب "قنبلة القيصر" في موقع نوفا زيمليا، ومثل الولايات المتحدة التي عرّضت سكان الجزر المرجانية رونجيلاب ورونجيريك للتلوّث بسبب السقاطة الإشعاعية؛ والأمثلة لا تنتهي، ولن تنتهي... وقد اختبرها لبنان الضعيف المشرذم عام 2020 في انفجار مرفأ بيروت، الذي لم تطلب حكومة لبنان التحقيق فيه أمام الأمم المتحدة، لأنّ الفاعل والمفعول لأجله معروفان.
الأمم المتحدة- نيويورك