يأتي تذكار النبيّ يونان[1] (القرن التاسع-الثامن قبل الميلاد) في الحادي والعشرين من شهر أيلول ليضع أمامنا ثلاثة أمور مهمّة جدًّا:

الأوّل دعوة يونان أهل مدينة نينوى للتّوبة.

هو النبيّ الوحيد في العهد القديم الذي أوكل إليه الله تبشير أهل مدينة أمميّة بشكل مباشر ودعوتهم إلى التّوبة قبل فوات الآوان.

هناك معنيان متضاربان لاسم يونان بحسب الجذر العبريّ: الأوّل حمامة والثاني حزن وألم مرتبط بعمل خاطىء. علماء اللغات السامية يميلون أكثر إلى حمامة.

ما قام به يونان يحمل المعنييْن، فهو كان مثل حمامة فجر جديد لأهل نينوى الذين دعاهم ليتوبوا عن خطاياهم التي تُسبّب لهم الحزن والألم.

من يعبر من الخطيئة إلى التوبة يعبر من الحزن والألم إلى الفرح. لهذا، دعوة يونان مستمرّة في الأجيال والأزمان كلّها، وأكبر ضلال أن نعتبر أنفسنا معفيّين لكوننا نؤمن بالمسيح أو نشارك بالصلوات أو حتّى مكرّسين أو حائزين شهادة لاهوت أو نعلّم ونحاضر ونكتب...

المسيحيّ الحقيقيّ هو إنسان تائب دائمًا لأنّ التوبة طريق القداسة. هذا ما أكّده القدّيسون، لأنّ القداسة هي الفرز، أي نكون مفروزين للربّ بمعنى طاردين للخطيئة من نفوسنا وغير معاشرين لها، لنكون حقًّا نعيش مسيحيّتنا ومن معشر المسيح.

كانت مدينة نينوى عاصمة الإمبراطوريّة الأشوريّة (العراق حاليًّا) يعمّ فيها الفساد وحكّامها متسلّطون ومتكبّرون، وأكبر آلهتهم عشتروت.

وصف ناحوم النبيّ نينوى، في نبوءته عنها، كالتالي: "وَيْلٌ لِمَدِينَةِ الدِّمَاءِ. كُلُّهَا مَلآنَةٌ كَذِبًا وَخَطْفًا" (ناحوم 1:3).

هذا هو الابتعاد عن الرّبّ وعدم السير في خطاه والعمل بمشيئته. لهذا مثلًا كان كلام الربّ للفرّيسيّين قاسيًا جدًّا، ليس لأنّه لا يحبّهم، بل على العكس تمامًا، هو يريد خلاصهم، ولكن أتى توبيخه لهم لأنّهم يدّعون معرفة الله لمجرّد أنّهم حافظون للشرائع والناموس. ولكن عن أي حفظ يتكلّمون؟ الله يريد قلوبًا تعيش كلمته وتعرف اللاهوت من الداخل، وليس من الخارج، أي تعرف الله وليس فقط تعرف عنه.

الأمر الثاني استشهاد الرّبّ يسوع المسيح بحادثة يونان النبيّ. فلمّا شاهد اليهود بأمّ العين العجائب والشفاءات التي اجترحها يسوع ماتوا في غيظهم منه، وتحجّجوا بمخالفة السبت ليحاربوه. فقال لهم إنّه يريد رحمة لا ذبيحة، فلم يتحرّك فيهم شيء إلّا كيدهم وكبرياؤهم. عندها وبّخهم واصفًا إيّاهم بأولاد الأفاعي، وكيف يقدرون أن يتكلّموا بالصالحات وهم أشرار. فهذا قمّة الخداع لأنْ "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَم" (متى 34:12).

الملفت أنّ قومًا من الفرّيسيّين والكتبة طلبوا من يسوع آية، فكان جوابه الوحيد لهم: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال." (متى 39:12-40). ومدح الرّبّ توبة أهل نينوى الأمميّين لأنّهم تقدّموا على أهل المعرفة بتوبتهم.

ربط يسوع ما حدث مع يونان النبيّ بما سيتمّمه بموته بطبيعته البشريّة على الصليب ونزوله إلى الجحيم ويقوم بقوّة طبيعته الإلهيّة، ويغلب الموت بعقر داره. وقد قصد بذلك أن يجعلهم يعيدوا قراءة العهد القديم ليعرفوا أنّه هو المسيح المنتظر، والرّموز القديمة كلّها اتّضحت به والنبوءات جميعها تحقّقت به لأنّها تكلّمت عنه. كذلك ليماثلوا أهل نينوى بالتوبة فيقوموا من قبر خطاياهم. ومن خلالهم يقول لنا يسوع أيضًا، إن لم يكن اقترابنا من الأسفار المقدّسة هدفه التوبة والتواضع والمحبّة والرحمة فباطلة هي معرفتنا مهما سَمَتْ، لا بل تُمسي دينونةً لنا، ولا نظنّنّ أنّنا الأقربون.

أهل نينوى أصغوا ليونان وتواضعوا وتابوا، بينما الكبرياء والعبادة الذاتيّة كانت هي المسيطرة عند علماء اليهود. وهذه خطيئتنا كلّ يوم إن لم ننتبه إلى أنفسنا ونراجع ذواتنا على ضوء الإنجيل. فتوبيخ الرّبّ هو محبّة صرف بينما المحاباة هي من عمل الشيطان.

مع كلام يسوع للفرّيسيّين ننتقل إلى الأمر الثالث وهو: "وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!" (متى 12: 42). ففي وسطنا أعظم من يونان النبيّ ومن كلّ نبيّ، ألا وهو الرّبّ الخالق المتجسّد الصائر إنسانًا من أجلنا.

أمّا من ناحية الفن الإيقونغرافي، فما حصل مع يونان النبيّ له حضوره المميّز منذ القرون الأولى للمسيحيّة، فنجد في جداريّات دياميس روما مشاهد مختلفة ليونان يُرمى في البحر، وأخرى جالسًا على اليباس بعد خروجه. وتعتبر جداريّاته الموجودة هناك من ضمن الجداريّات التي تمثّل القيامة والتي نشاهد فيها دانيال النبيّ في جب الأسود، والفتية الثلاثة في أتون النّار، وموسى يضرب الصخرة ويخرج منها ماءً.

فهذه المشاهد مرتبطة بصلوات المؤمنين التي تقول: كما خلّصت يا ربّ يونان ودانيال والفتية الثلاث وأعطيت موسى والشعب ماءً حيًّا، خلّصنا نحن أيضًا لنرتوي منك، ونعبر معك إلى الحياة الأبديّة.

فلنصلِّ كما صلّى يونان النبيّ وهو في جوف الحوت: "دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي. صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ، فَسَمِعْتَ صَوْتِي" (يونان 2:2).

إلى الرّبّ نطلب.

[1]. يونان بحسب التقليد اليهودي هو ابن الأرملة في صرفة صيدا الذي صلّى النبي إيليا عليه طالبًا من الرّب أن تعود الحياة إليه.