من استمع للخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي جاء بعد "مجزرتي الثلاثاء والأربعاء"، وقبل استهداف الضاحية الجنوبية الثالث، أدرك أنّ التفجيرات المتزامنة التي استهدفت أجهزة الاتصالات التي يحملها عناصر الحزب على امتداد المناطق اللبنانية، "هزّت" الحزب كما هزّت الوطن بأسره، حتى إنّ الرجل كان "صريحًا" بوصفه لها بـ"الثقيلة والدامية"، وإقراره بأنّ الضربة التي تعرّضت لها المقاومة "قوية وغير مسبوقة".
قد لا يكون ذلك بمُستغرَب، حتى لو حاول بعض المحسوبين على الحزب التقليل من وقع التصعيد الإسرائيلي المستمرّ، في محاولةٍ ربما لرفع معنويّات جمهورٍ أصيبت شريحة واسعة منه بالإحباط، على وقع الجريمة الإسرائيلية المدوّية التي لم يكن أحد أن يتوقّع رؤيتها حتى في أفلام "الرعب" الخيالية، وما انطوت عليه من اختراقٍ صُنّف "الأخطر" ليس منذ فتح جبهة الجنوب في الثامن من تشرين الأول، بل في تاريخ الصراع، منذ نشأة "حزب الله".
ولعلّ "قساوة" الضربة تجلّت في خطاب السيد نصر الله، ليس فقط من حيث المضمون، بل حتى في الشكل، وتحديدًا في النبرة الحزينة والغاضبة التي اتّسم بها، والتي جاءت منسجمة أيضًا مع الصور العاطفية والوجدانية المؤثّرة التي كثر تداولها في الأيام القليلة الماضية، حول واقع الإصابات التي ترتّبت على المجزرتين الإسرائيليتين، والتي تركّزت بشكل خاص في الأوجه والعيون، في ظلّ مشهد تضامنيّ قلّ نظيره في السنوات الأخيرة.
لكنّ "حزب الله" الذي تعمّد عدم التقليل من وقع الضربة، أراد أيضًا القول إنّه "استوعبها"، وإنّها لم تُسقِطه ولن تُسقِطه، بل إنّها ستجعله "أقوى وأشدّ صلابة وعزمًا وعودًا وقدرة على مواجهة كل الاحتمالات والمخاطر"، وفق ما قال السيد نصر الله، فهل يكون قادرًا فعلاً على تجاوز الضربة، التي أوحى أنّها مجرّد "جولة" في سياق الحرب المفتوحة، خصوصًا في ظلّ استنفار إسرائيلي غير مسبوقة ترجمته الغارة الجديدة على الضاحية؟!.
في المبدأ، يسجّل العارفون أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" حرص في خطابه، إلى جانب التأكيد على قوة الضربة، وعلى "التفوّق التكنولوجي للعدو" الذي يتسلّح بدعمٍ غربيّ لا يمكن تجاهله، على "طمأنة" الجمهور بأنّ المقاومة باقية على جهوزيتها الكاملة، وأنّ بنيتها لن تتأثّر بما جرى، وكأنّه أراد تبنّي الشعار الشهير "اهتزّ ولم يقع"، للقول إنّ الضربة لم تربك الحزب ولم تضعفه، وهو ما ترجِم ميدانيًا بتكثيف العمليات على خطّ الجبهة الجنوبية.
في هذا السياق، كان أكثر من لافِت حرص "حزب الله" على استكمال عملياته في الجنوب في اليوم التالي لمجزرة البيجر، من دون أيّ توقّف، بعد رسمه معادلة أنّ مسار "القصاص العادل" لجريمة استهداف أجهزة الاتصال منفصل تمامًا عن مسار الجبهة المفتوحة جنوبًا، وهو ما واصل العمل به حتى بعد "الحلقة الثانية" من الهجوم الإسرائيلي يوم الأربعاء، وبالتوازي مع خطاب السيد نصر الله، كما بعد ضربة الضاحية، في رسالة "صمود ومثابرة".
وإذا كان الحزب أصرّ بعيد مجزرتي "الثلاثاء والأربعاء"، على القيام بعمليات "نوعية" على خطّ الجبهة الجنوبية، وقد أسفر بعضها عن وقوع قتلى في صفوف القوات الإسرائيلية، فإنّ كلّ ذلك يُفهَم بحسب العارفين في سياق "الحرب النفسية"، التي لم تنتهِ بالضربة الأخيرة، على خطورتها، حيث يشير هؤلاء إلى أنّ الحزب أراد القول إنّه حافظ على تماسكه، وواصل عملياته، وهو بذلك أجهض أحد أهمّ أهداف ومخططات العدو من هجماته المتجدّدة.
ولعلّ هذه الرسالة تجلّت بوضوح في خطاب الأمين العام للحزب، حيث كان العنوان الأساسي منه أنّ الحزب تعرّض لضربة قاسية ومؤلمة وغير مسبوقة، ولكنّه لم يقع، بمعنى أنّ الحزب ربما خسر "جولة" من الحرب، لاعتبارات كثيرة تخضع للمراجعة، لكنه لا يزال ثابتًا في الميدان، ولا يزال قادرًا على التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية، بل إنّه كان واضحًا أيضًا بقوله إنّه سيأخذ الدروس ممّا جرى، ليصبح أكثر قوة وقدرة على مواجهة كل الاحتمالات مستقبلاً.
لكنّ هذه الرسالة التي أراد "الحزب" إيصالها، ومفادها أنّه استوعب بالفعل ما جرى، وقد بدأ بإجراء مراجعة ذاتية للتعامل معه، قد لا تكون كافية، باعتبار أنّ استيعاب ما جرى شيء، وتجاوزه شيء آخر، فماذا لو فعلها الإسرائيلي، واستغلّ اللحظة لشنّ الحرب التي يلوّح بها منذ فترة غير قصيرة، وهو ما فعله باستهداف الضاحية الجنوبية للمرّة الثالثة، من دون أيّ مقدّمات، ومن دون أيّ اعتبار للتبعات المحتملة لذلك؟!.
يؤكد العارفون أنّ التهويل كثُر في الأيام الأخيرة من الحرب التي قيل إنّ إسرائيل "حسمت" انتصارها فيها بالضربة التي أرادتها "افتتاحية" لها، إلا أنّهم يلفتون إلى وجهة نظر أخرى، ترى أنّ "حزب الله" استطاع احتواء الأمر، بعدم لجوئه إلى أيّ ردّ انفعالي أو فوري، كانت إسرائيل تريده "ذريعة"، بل كان لافتًا أنّه أعاد التأكيد على "الثوابت" نفسها، موجّهًا رسالة عالية السقف، بأنّ الحرب لن تحقّق الهدف الإسرائيلي بعودة مستوطني الشمال إلى بيوتهم.
ولعلّ هذه الجزئية من خطاب السيد نصر الله مثيرة للانتباه، فإذا كان التهويل مستندًا إلى منطق "إعادة المستوطنين إلى بيوتهم بأمان"، وفق ما يردّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلّ يوم تقريبًا، فإنّ السبيل لتحقيق ذلك ليس الحرب، بل على العكس من ذلك، فإنّ أيّ عملية عسكرية من شأنها أن تفاقم الأزمة أكثر، وتزيد نسبة المهجَّرين بدل خفضها، باعتبار أنّ قواعد الاشتباك كلّها تصبح عند اندلاع الحرب، في خبر كان، شأنها شأن الضوابط والأسقف.
ويقول العارفون إنّ الرسالة الأساسية التي أراد السيد نصر الله توجيهها في الخطاب، ليست أنّ الحزب لم يقع ولم يخسر الحرب، ولو مُنِيَ بضربة ثقيلة وقاسية، ولكن أنّه لا يزال ثابتًا على المعادلات نفسها، وتحديدًا لجهة أنّ العمليات لن تتوقف ما لم يتوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، حتى إنّه خاطب الإسرائيليين بالقول "افعلوا ما شئتم" في رسالة "تحدّ" أخرى، تكرّس المبدأ القائل بأنّ وقف العدوان على غزة هو المَدخَل لكلّ الحلول.
خالف السيد نصر الله التوقعات في خطابه، حين أقرّ بثقل ما جرى، وبتفوّق العدو، لكنّه خالفها أيضًا بالحديث عن الرد على الجريمة الإسرائيلية، فهو لم يرفع السقف كما اعتاد، بل احتفظ بالتفاصيل لـ"أضيق دائرة في أنفسنا". يقول البعض إنّه لم يُرِد أن يقدّم للعدوّ ما يريده، وقد يشكّل ذريعة لحرب "استباقية"، فيما يقول آخرون إنّه لم يُرِد أن يكرّر سيناريو "التوتر والقلق" ما بعد اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر، وهو ما قد لا تكون بيئته الحاضنة قادرة على تحمّله.
في كلّ الأحوال، فإنّ الثابت أنّ خطاب السيد نصر الله، معطوفًا على ضربة الضاحية الجنوبية والتهديدات الإسرائيلية التي بلغت أوجها في الآونة الأخيرة، ترك الباب مفتوحًا على كل الاحتمالات والسيناريوهات، سيناريوهات يقول البعض إنّه يجب توقّع "الأسوأ" فيها دومًا، خصوصًا بعد جريمة كان من شأنها لو حدثت في أيّ بلد آخر، بما في ذلك إسرائيل، أن تتسبّب بحرب عالمية، فإذا بالغرب يكتفي بالدعوة إلى "ضبط النفس"، من دون أن يدينها أخلاقيًا حتى!.