رفع الاسرائيليون من مستوى ضغوطاتهم على "حزب الله"، إلى حد تجاوز كل الخطوط الحمر، وإسقاط قواعد الاشتباك التي التزم بها الحزب في الأشهر الماضية. قد يكون التجرؤ الإسرائيلي سببه إدراك ان "حزب الله" لن يُقدم على استخدام كامل قدراته العسكرية، رغم ان الحزب لوّح بها، ومارس التهديدات العملية بحق الإسرائيليين مراراً، عبر جولات مسيّرة "هدهد"، واستعمال صواريخ تستطيع الوصول إلى اهداف بعيدة، وتتفوق على القبة الحديدية، وخطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي توعّد بالرد الوازن على أي اعتداء اسرائيلي.
لكن تجربة الأشهر الماضية اكدّت للإسرائيليين ان "حزب الله" لا يريد أن يستهدفهم بالصواريخ الثقيلة التي يخزّنها، ولا يخطط لحرب واسعة.
قد يكون الطلب الإيراني من الامين العام لحزب الله "بالصبر الاستراتيجي" هو اساس معادلة الحزب، لأن هناك اتفاقاً إيرانياً مع الولايات المتحدة الاميركية يقضي بعدم فتح الحرب الشاملة، بإنتظار الإعلان عن الصفقة السياسية بين واشنطن وطهران بعد انتهاء الانتخابات الاميركية.
وقد تكون حسابات الحزب، اللبنانية والاقليمية، تمنعه من ملاقاة رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو في سعيه لتوسيع الحرب، ضمن معركة الوجود التي يخوضها الاسرائيليون، وبإعتبار ان عنوان المواجهة التي يخوضها "حزب الله" هي إسناد غزة، لا غير.
امّا وان الحزب ابقى جبهة الجنوب اللبناني مفتوحة، تؤرق الاسرائيليين بكل المقاييس، فإن الشعار الذي رفعه نتنياهو هو: اعادة مستوطني المناطق الحدودية مع لبنان، إلى مستوطناتهم، وضمان امنهم الدائم، لمنع تكرار ما حصل في غلاف غزه في شهر تشرين الاول الماضي. لا يريد نتنياهو اكثر من ضبط الحدود مع لبنان نهائياً.
لكن "حزب الله" رفض كل المحاولات لوقف عمليات إسناد غزة، وأصرّ على ممارسة استهدافاته لمواقع ومراكز عسكرية إسرائيلية، من دون ان يوسّع دائرة اهدافه او يطوّر كثيراً في أسلحته المستخدمة. وهو ما رفضه نتنياهو مراراً، لان ذلك يشكّل لإسرائيل استنزافاً صعباً، فوضع خطط تصعيدية تدريجية في استهداف "حزب الله"، واستقدم فرق عسكرية ثلاث من الجنوب، اي من غزة، نحو الشمال، أي إلى الحدود مع لبنان.
هل يعني ذلك ان الحرب الواسعة قادمة؟
يعتمد الاسرائيليون على الاستهدافات المتدرجة، لكن تركيزهم هو على الشخصيات العسكرية الأساسية في "حزب الله"، ومن هنا جاءت عملية اغتيال المسؤول العسكري في الحزب إبراهيم عقيل، المعروف بلقب الحاج عبدالقادر، بعد استهداف رئيس اركان قوات الحزب العسكرية محسن شكر، الذي كان معروفاً بإسم الحاج فؤاد.
ينتمي الاثنان المذكوران إلى "المجلس الجهادي"، اي المجلس القيادي الأساسي في "حزب الله"، لكنهما كانا مطلوبين للأميركيين الذين خصصوا مكافآت مالية للوصول إلى هؤلاء الاعضاء القياديين في "حزب الله"، لاتهامهم في قضايا تفجير طالت الاميركيين، في ثمانينات القرن الماضي.
لكن لا يوجد مؤشرات توحي بأن الحرب الشاملة او التقليدية واردة، بل ستستمر المواجهات الميدانية المتبادلة تطال العسكريين ومواقعهم، كما هي، بين تصعيد ومحاولة احتواء دولية وتحديدا أميركية، طالما حرب غزة مستمرة.
فلماذا لن يوسّع "حزب الله" معاركه، ويرفع من مستوى الحرب: هل فقد القدرة؟
يعتمد الحزب على استنزاف اسرائيل، وهو يرى ان ذاك الاستنزاف يحقق غايته، على الاقل يُبقي المستوطنين بعيدين عن الشمال، مما يشكّل عامل ضغط كبير على الحكومة الإسرائيلية. كما ان الحزب لن يذهب إلى المعركة الواسعة في التوقيت الاسرائيلي، خصوصاً ان نتنياهو يلعب اخطر معاركه الوجودية في زمن الانشغال الاميركي بالانتخابات، وضعف البيت الأبيض امام تل ابيب، بسبب حسابات تلك الانتخابات الرئاسية.
فلماذا لا يوقف الحزب معركة إسناد غزة اذاً؟.
في حال اقدم "حزب الله" على التراجع قبل وقف حرب غزة، ستعتبر تل ابيب ذلك استسلاماً، تطالب بعده بشروط امنية وعسكرية في جنوب لبنان، تحت طائلة شن الحرب الواسعة عليه. كما سيستثمر خصوم الحزب اي تراجع له، في الحسابات السياسية الاقليمية والمحلية.
والاهم ان الحزب بالنسبة الى محوره، يكون قد رمى قتال وتضحيات الأشهر الماضية كلها في إسناد غزة، وتركها وحيدة، بشكل يضرّ بحلفه مع الفلسطينيين، ويُعتبر تنازلاً عن القضية الفلسطينية وشعاراته التي يرفعها في اساس عقيدته الحزبية.
ما هو الحل؟
في حال استمر العجز الدولي عن فرض وقف حرب غزة نهائياً، ولم يقبل الاسرائيليون بالتسوية التي سوّقها البيت الأبيض سابقاً، ستستمر المعارك التي انطلقت منذ شهر تشرين الأول الماضي بكل اتجاهاتها، وبما فيها بين إسرائيل و "حزب الله"، بتكثيف الاستهدافات لقيادات ومراكز ومواقع للحزب، في اي مساحة جغرافية لبنانية.
لكن تل ابيب قد تعمد إلى تطوير معركتها مع لبنان، بمحاولة فرض واقع ميداني حدودي جنوبي، عبر تنفيذ معادلة الارض المحروقة في البلدات اللبنانية الحدودية، او السعي إلى دخول محدود نحو الأراضي اللبنانية، وهو امر يغيّر من حسابات "حزب الله" ليجد نفسه في مواجهة اي تقدم اسرائيلي، ليمنع سابقة في التاريخ الحديث ان مقاومة حررت أراضيها، ثم خسرتها بعد عقدين ونصف.