الخَوفُ سِلاحُ التَسَلُّطِ لِلإخضاعِ، إذ مِن أجلِ التَسَلُّطِ كانَ الإستِعبادُ. هَذِهِ بَديهِيَّةٌ لاإنسانِيَّةٌ إنبَرَت حَتمِيَّةً بَشَرِيَّةً، إذِ الحَيَوانُ يُسابِقُ غَريزَتَهُ، وَلا يَفقَهُ مَدارِكَ العُنفِ. وأخطَرُ ما فيها أنَّ الخَوفَ يَنتَصِرُ على الحَياةِ، لا على... ذاكَ الخِضَمَّ التَرحالِيَّ الإسمُهُ المَوتُ. فَمُنذُ قايينَ قاتِلَ أخيهِ هابيلَ، وإثارَةُ الخَوفِ المُهلِكِ وَسيلَةُ تَحَكُّمٍ. على إسمِهِ أينَعَتِ إيديولوجِيَّاتُ حُكمٍ.
أمِنَ الخَلقِ يَنجَليَ الخَوفُ نَقيضَ مَنطِقِ الأُلوهَةِ؟ اللهُ خَلَقَ الكَونَ نافِحًا، مِن روحِهِ، في الإنسانِ، كُلِيَّتِهِ الكُلِيَّةِ، نَسَمَةَ الحَياةِ، أيّ هِبَتَهُ الأسمى: تَنَفُّسُ الحُرِيَّةِ والنُموّ في المَسؤولِيَّةِ. لَيسَ إذاً خَلقُ الإنسانِ وَليدَ قُوَّةٍ هَوجاءَ، بَل تَخطيطٌ إلَهيٌّ تارِكاً لِلإنسانِ أعظَمَ ما في جَوهَرِ الخَلقِ: صَيرورَةُ الإكتِمالِ.
وَكانَ لبنانُ. بَل سَبَقَ تِلكَ الرِوايَةَ الوارِدَةَ في إستِهلالِيَّةِ الكِتابِ المُقَدَّسِ. فَفي كوسموغونِيَّةِ سَنخوني أتُنُ، إبنُ بيريتَ-بَيروتَ، المُؤَرِّخُ الأوَّلُ في المَسكونَةِ، تَدوينٌ لِتُراثِ بيبلوسَ، حاضِرَةِ المَدائِنَ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ الروحِيَّةِ حَولَ نَشأةِ الكَونِ وَتَكوينِ العالَمِ. وَوِفقاً لَهُ، الإخوَةُ الأُوَلُ عَمالِقَةٌ مَدعُوِّينَ تَراتُبِيَّاً: "لبنانُ"، "أنتيلُبنانُ"، "كاسيوسُ"، وَ"براثِيُ". هُمُ أوَّلُ مَن إبتَدَعَ ذَبائِحَ البَخّورِ على شَرَفِ خالِقِهِمِ، وَنَقَلوا الكَونَ والعالَمَ مِنَ الفَوضى إلى النِظامِ، لِتَظهَرَ بَعدَها وَبِسيادَةِ حالَةِ التَناغُمِ هَذِهِ الكائِناتُ الحَيَّةُ. بِذَلِكَ وَقَعَ المِثالُ على عاتِقِ الإنسانِ-البِكرِ: لبنانُ، ألصارَ شَبَهاً لِلأُلوهَةِ، وإكتَمَلَت فيهِ صورَتُها الوجودِيَّةُ في علاقَتِهِ بالكَونِ والعالَمِ وَسائِرِ المَخلوقاتِ. هو وَكيلُ الحَياةِ لا المَوتِ. دَيمومَةُ التَجَدُّدِ لا الإستِعبادِ.
لبنانُ-البِكرُ نِقطَةُ البِدايَةِ لِتَوكيدِ حَميمِيَّةِ العَلاقَةِ بَينَ الإنسانِ وَخالِقِهِ، والإنسانِ وَأخيهِ بالإنفِتاحِ الأكثَرَ عُمُقاً والتَبادُلِ الأكثَرَ كَرَماً. في هَذِهِ التَشارُكِيَّةِ يَنفَتِحُ التاريخُ على أكثَرَ مَراتِبَ الوعي تَرَقِيَّاً.
قايينُ-بِكرُ-البِكرِ-آدمَ نِقطَةُ البِدايَةِ لإيغالاتِ وإباداتِ قايينيِيِّ الشَرقِ والغَربِ المُستَألِهينَ، وَنُظُمِهِمِ العَسكَرِيَّةِ والمُتَعَسكِرَةِ،... لِهابيلييِّهِمِ، مِن سُهولِ نينوى الى الأميركِيَّتَينِ وَتَوابِعِهِما.
الأوَّلُ لا خَوفَ فيهِ، وَمِنهُ، بَل تَسامٍ بِدَيمومَةٍ. والثانيُ الخَوفُ مِنهُ، وَفيهِ، إرتِباطٌ بِدَمَويَّاتٍ. تَمَركُزٌ بالذاتِ لِلتَمَركُزِ الأكثَرَ هَولاً على كُلِّ آخَرِ.
تَطابُقُ الضَرورَةِ
يَجِبُ أن يُقتَلَ لبنانُ! فَبِمَقتَلِهِ، القَضاءُ عَلَيهِ بِكراً مُحيِياً.
تِلكَ مِحوَرِيَّةُ ما سُمِّيَ "المَسألَةَ الشَرقِيَّةَ" مُنذُ حَملَةِ بونابرتَ على مِصرَ في العامِ 1798، ألكانَت تِنافُساً بَينَ قِوىً غَربِيَّةٍ حَريصَةٍ على تَقاسُمِ سَلطَنَةِ بَني عُثمانَ. أهيَ مَسألَةٌ غَربِيَّةٌ؟ بَل مُنذُ صِراعاتِ الفُرسِ والإغريقِ الى الَيومِ، مَسألَةُ إستِعمارٍ يَبغي إلغاءَ الآخَرَ بالحُروبِ القائِمَةِ والبَديلَةِ... مِحوَرِيَّتُها لبنانُ الحُرُّ-المُطلَقُ، بِوَجهِ تَلاحُمِ أشكالِ الطُغيانِ، وَديكتاتورِيَّاتِ إزهاقِ الحَيَوِيَّاتِ النَهضَوِيَّةِ، وَعُنصُرِيَّاتِ الفَصلِ بَينَ القاتِلِ والضَحِيَّةِ، حَدَّ بُلوغِ عَدَمِ فَهمِ الغَربِ إلَّا بِالمواجَهَةِ بَينَهُ والشَرقِ، والعَكسُ بِالعَكسِ.
ذاكَ اللبنانُ، الذي يُرغِمونَهُ على الخَوفِ مُقَدِّمَةً لِإخضاعِهِ صَرحٌ ميتافيزيقِيٌّ، نَقيضُ صُروحِ الدوغماتِيَّاتِ القاتِلَةِ. هو إختِبارُ الضَرورَةِ الأزَلِيَّةِ القُصوى.
وَذاكَ التَلاحُمُ بِوَجهِهِ فَرَضِيَّاتٌ تَجريبِيَّةٌ قِوامُها ‒مَهما تَجَبَّرَت‒ إستِقراءاتٌ إحتِمالِيَّةٌ أو قياسِيَّةٌ.
فَلنَقُلها بِلُغَةِ الغَربِ الشائِعَةِ: لبنانُ نِقطَةُ التَناقُضِ الأدائِيّ (performative contradiction) المُتأتِي، مِن طَرحِ الإرادَةِ الحُرَّةِ (free will) الصارِخِ: حَسَنَاً، هَذا ما يَتَوَجَّبُ فِعلُهُ!
هو حُرٌّ لِأنَّ اللهَ حُرٌّ. غُموضُ الخَوفِ، وَضلالُهُ، وَتَثبيتُهُ... بُهتانٌ أمامُهُ، لِأنَّهُ تَطابُقُ الضَرورَةِ والواقِعُ المُلِحُّ.
قولوها: لبنانُ إنتِصارٌ على الخَوفِ، كَونُهُ تَجَلّي الوَعي الِإلَهيِّ والإنسانيِّ، مُتُمُوضِعاً لا على مُستَوى الوَعي البَحتِ (pure conscience) فَحَسبَ، بَل وَفي الوَعي النَقيِّ، الوَعي-الدَليلِ (pleine conscience).