بعد اشهر طويلة من تسيّد معادلة الردع والتوازن العسكري بين حزب الله واسرائيل، وبعد ان كان الحزب متقدماً نوعاً ما معنوياً وعملياً على الاسرائيليين، لجا رئيس الوزراء الاسرائيلي الى "جرعة سحريّة" استقاها من الاميركيين والاوروبيين والداعمين الكثر، وقلب الموازين بين ليلة وضحاها، فمحى في ايام قليلة كل التقدم والانجازات التي حقّقها حزب الله على مدى اكثر من 8 اشهر. وما شهدته الاراضي اللبنانية بالامس، لم يكن امراً عادياً، فحتى في خضم الحرب المعلنة والتي كانت "مخصّصة للبنان" عام 2006، لم يسقط في يوم واحد نحو 500 شهيد، اذ فاق الجنون الاسرائيلي هذه المرة كل التوقعات، وكان التصريح غير المعلن ان سياسة "عض الاصابع" ولو انها تؤلم الطرفين الا انها تؤذي الحزب ولبنان اكثر بكثير مما تؤذي اسرائيل.
لم يحتج رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الى مقدّمات لتوجيه رسالة مباشرة الى الامين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله مفادها ان "صواريخي اقوى من صواريخك" و"استخباراتي اقوى من استخباراتك" و"ادائي المعلوماتي والتكنولوجي اقوى من ادائك المعلوماتي والتكنولوجي". هذه الرسالة المباشرة والقوية، نفذت غايتها، ولم يكن يهدف نتنياهو من خلفها في مطلق الاحوال، القول انه سينتقل الى الغزو البرّي، او انه سيقضي على حزب الله، بل كان الهدف ان يظهر تفوّقه مستغلاً الدعم المطلق الذي يحصل عليه من الغرب وفي مقدمهم الولايات المتحدة الاميركية والاوروبيين، وهو يلعب ورقته تلك بشكل فاضح بعدما اعلن انه يسعى الى دفع الحزب الى التراجع عن الاهداف التي وضعها، والحد من قدراته، وليس القضاء عليه.
في الواقع، كان البعض يمنّن النفس بأن ما حصل عام 2006 لجهة "عربدة" الطيران الاسرائيلي في الاجواء اللبنانية واصطياد الاهداف التي يريد وقتل من يختاره، لن تحصل في العام 2024، خصوصاً وان الحزب وامينه العام اوحيا بأن الاسلحة التي باتت في حوزتهم ستمنع مثل هذا المشهد، الا انه يبدو ان هذا الكلام كان فيه مبالغة كبيرة او في حال صح، فإن هناك شروطاً وقيوداً تمنعه من استعمال هذا السلاح، ما يعني في الحالتين ان نتنياهو هو الفائز في هذه المواجهة، حتى ولو ان الحزب لا يزال يقصف مواقع ومناطق في الداخل الاسرائيلي، الا ان الفارق في النتيجة كبير وكبير جداً.
مقابل هذه القفزة الهائلة التي حققها نتنياهو، هناك تراجع دراماتيكي لنصر الله، اذ فجأة تحوّل رئيس الوزراء الاسرائيلي من منبوذ وضعيف، الى اكثر قوة وشعبية، فيما زادت الشكوك حول قدرة حزب الله على تغيير الواقع، خصوصاً وان الاسرائيليين يدركون جيداً ان ساحة الحزب المفضلة هي المعارك البرية، لذلك يتجنّبون خوض هذه المغامرة المكلفة، و"يستمتعون" بلعبتهم المفضلة وهي ان يسرحوا ويمرحوا بطائراتهم وصواريخهم ويعيثوا القتل والدمار من دون حسيب او رقيب. وبالتالي، في ميزان الربح والخسارة، فإن الافضلية تحوّلت من دون اي شك، الى الاسرائيليين، وسيكون من الصعب جداً على حزب الله ان يعيد التوازن الى ما كان عليه قبل اسابيع قليلة، بالرغم من ان نتيناهو لم يحقق هدفه بالاصل ان في غزة او في لبنان لجهة اعادة سكان الشمال الى قواعدهم، ولكنه بات يتمتع بهامش اكبر من الراحة والنفوذ، حتى اذا ما تم التوافق على الوصول الى تسوية، تصبح شروطه اكثر قابليّة للتنفيذ من غيرها.
يفخر حزب الله بأنه منع نتنياهو من تحقيق اهدافه، وهذا الانجاز كان ليدخل التاريخ لولا "استفاقة الميت" التي حققها المسؤول الاسرائيلي ونجح بدفع الكثيرين الى التفكير بعمق قبل اعلان وفاته سياسياً ودبلوماسياً وحتى عسكرياً، فهل سيتمكن الحزب فعلاً من التعويض؟ وسيكون من المدهش معرفة متى وكيف؟!.