بعد يوم واحد من بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول الماضي، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية، من دون علمه أو مشاورته، كما قال لاحقًا، أعلن "حزب الله" فتح ما سُمّيت بـ"جبهة الإسناد اللبنانية" للشعب الفلسطيني المُحاصَر في غزة، تحت عنوان عدم السماح لإسرائيل بالاستفراد بالقطاع، والدفاع عن القضية الفلسطينية المركزية بالنسبة إليه، في وجه مؤامرة إجهاضها.

صحيح أنّ فكرة "جبهة الإسناد" لا تزال حتى اليوم تثير الجدل في الداخل اللبناني، في ظلّ وجهة نظر تقول بأنّ هذه الجبهة لم تنفع فلسطينيي غزة عمليًا، طالما أنّها لم تنجح في منع جريمة الإبادة المتواصلة، بل إنّها أضرّت بلبنان أيضًا ووضعته تحت النار في ظلّ ظرف دقيق وحسّاس، إلا أنّ الثابت في كلّ الأحوال أنّ "حزب الله" دفع ثمن هذا الإسناد غاليًا، طيلة أشهر "الطوفان"، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ إسرائيل كانت تخطّط لمهاجمته، بإسنادٍ أو من دونه.

وإذا كان الحزب تحمّل الفاتورة التي دفعها على امتداد الأشهر الأخيرة، من باب انسجامه مع المبدأ الذي دفعه أساسًا لفتح الجبهة، بالنظر إلى المكانة المركزية للقضية الفلسطينية بالنسبة إليه، فإنّ ما جرى في الأسبوعين الأخيرين شكّل "نقطة تحوّل" في المسار، أصبحت معه الفاتورة ثقيلة جدًا، بدءًا من مجزرتي أجهزة الاتصال غير المسبوقتين في التاريخ الحديث، وصولاً إلى مجزرة الضاحية الجنوبية، التي استهدفت نخبة قادة "وحدة الرضوان" فيه.

وجاء العدوان الإسرائيلي على لبنان ليفاقم الأمر بالنسبة إلى "حزب الله"، مع ما تتعرّض له بيئته الحاضنة في الجنوب والبقاع من مآسٍ يومية، فضلاً عن تجرّعها كأس النزوح المرّة، والإذلال الذي رافقها على الطرقات، ليطرح علامات استفهام بالجملة، فأين "جبهات الإسناد" المفترضة لـ"حزب الله"، خصوصًا ممّن كانوا يتوعّدون بأنّ الحرب على لبنان ستؤدي إلى حرب إقليمية شاملة، ولماذا استفزّت المواقف الإيرانية تحديدًا الكثيرين، من جمهور الحزب قبل خصومه؟

بالنسبة إلى خصوم "حزب الله"، فإنّ الواضح أنّ الحزب تُرِك وحيدًا في قلب المعركة، بعدما كان قد "جُرّ" إليها تحت عنوان "وحدة الساحات" التي يبدو أنّها سقطت سريعًا على الساحة اللبنانية، بدليل التصريحات الإيرانية حول خيارات السلام والتسوية، وقد بدت "نافرة" خصوصًا لتزامنها مع بدء العدوان على لبنان، في حين أنّ العمليات التي انطلقت من اليمن ومن العراق، جاءت محدودة ومتواضعة، ولا يمكن أن تلبّي الغرض بأيّ شكل من الأشكال.

يذكّر هؤلاء كيف أنّه في اليوم الأول من العدوان الإسرائيلي المكثّف على لبنان، وعلى وقع الغارات الإسرائيلية غير المسبوقة، التي أسفرت عن سقوط عدد هائل من الضحايا، قارب في يوم واحد نصف إجماليّ عدد ضحايا حرب تموز 2006، التي استمرّت 33 يومًا، خرج وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بتصريح "جدلي" أعلن فيه استعداد بلاده لبدء مفاوضات نووية، إذا كانت الأطراف الأخرى راغبة في ذلك، في إشارة إلى الغرب.

لم يكن تصريح رأس الدبلوماسية الإيرانية غير محسوب، كما يحلو للبعض القول، ممّن يشيرون إلى أنّه جاء في خضمّ التصعيد، وقبل بلورة الصورة وجلائها، لأنّ التصريحات التي أعقبته لم تكن أفضل حالاً، فالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان كرّره وإن بصيغة مختلفة، حيث نُقِل عنه القول إنّ بلاده مستعدّة لخفض التوترات مع إسرائيل، إذا رأت التزامًا مماثلاً من الجانب الآخر، بل إنّها مستعدة لوضع أسلحتها جانبًا، في حال قامت إسرائيل بالأمر نفسه.

ومع أنّ مثل هذه التصريحات تتناقض في الجوهر، مع المبادئ التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي تعتبر العداء مع إسرائيل استراتيجيًا، فإنّ ما بدا "نافرًا أكثر" برأي كثيرين، كان قول الرئيس الإيراني في تصريحات لقناة "سي أن أن" الأميركية تحديدًا، إنّ "حزب الله" غير قادر بمفرده على الوقوف في وجه "دولة مسلحة تسليحًا جيدًا جدًا، ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوق بكثير على أيّ شيء آخر".

يقول خصوم "حزب الله" إنّ مثل هذا الكلام قد يكون مفهومًا، لو أرادت إيران "تبرير" انخراطها في الصراع، لإسناد الحزب، إلا أنّه بدلاً من ذلك، فتح الباب أمام الخيار الدبلوماسي، داعيًا الدول الإسلامية إلى عقد اجتماع من أجل صياغة ردّ فعل على ما يحدث، وهو ما يؤكد مرّة أخرى وفق هؤلاء، أنّ إيران تخلّت عن الحزب، بل إنّ بينهم من يقول إنّها "باعته"، بدليل استعدادها لإبرام "صفقة" على حسابه، حتى لا تتورط في الحرب مباشرةً.

وإذا كان كلام خصوم "حزب الله" مقنعًا لكثيرين، باعتبار أنّ إيران لو أرادت "إسناد" الحزب لاستغلّت الظرف لتنفيذ وعيدها بالرد على جريمة اغتيال رئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية، المؤجّل إلى "الزمان والمكان المناسبَين"، فإنّ الدائرين في فلك الحزب يرفضون كلّ هذه الاستنتاجات، ويؤكدون أنّ كلّ ما يُحكى عن تباينات هو من نسج الخيال، ولا سيما أنّ الحزب لم يطلب من إيران شيئًا، حتى يُقال إنّها تخلّت عنه.

وفقًا لهؤلاء، فإنّ الحزب وخلافًا لكلّ ما يروَّج، لا يزال مرتاحًا لواقعه، ويعتبر أنّ الأمور لا تزال "تحت السيطرة"، على الرغم من الخسائر القاسية التي تعرّض لها منذ مجزرتي أجهزة الاتصال، وما أعقبها من مجازر وحشية ودموية، إذ يعتمد الحزب طريقة "التصعيد التدريجي" في الردّ عليها، وقد أضاف إلى بياناته العسكرية عبارات تحمل دلالات واضحة، من نوع الدفاع عن لبنان وشعبه، والردّ على الاستباحة الهمجية للقرى والمدن والمدنيين.

يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ الأخير لا يزال رغم كلّ شيء، ملتزمًا بما يمكن وصفها بقواعد الاشتباك، وهو لم يحرّر نفسه بعد من كلّ الضوابط والقيود التي كبّلته منذ فتح جبهة الجنوب، بل إنّه لم يستخدم إلا ما تيسّر من قدراته العسكرية، ولم يكشف كلّ أوراق قوته، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، وذلك لأنه لا يزال يترك المجال لحلّ الأمور، من دون حرب شاملة، لن تكون في مصلحة أحد، وسيكون الإسرائيليون خاسرين فيها.

من هنا، يرى هؤلاء أنّ التصريحات الإيرانية مع كلّ ما أثارته من تباينات، "تتكامل" مع الدور العسكري الذي يقوم به "حزب الله"، فهي تسعى لحمايته، ولا سيما أنّ القاصي والداني يدرك أنّ دخول إيران على خطّ الحرب، سواء كان ذلك بعنوان "إسناد" الحزب أو غير ذلك، يمكن أن يؤدي إلى الدخول في حرب إقليمية، لا يعرف أحد كيف يمكن أن تنتهي، علمًا أنّ هذا الخيار يبقى مطروحًا، لكن ليس في الوقت الحاليّ.

يختصر المحسوبون على "حزب الله" الأمر بأنّ الأخير لا يزال يحتفظ بأوراق قوة، وهو قادر على الصمود والمقاومة، دفاعًا عن لبنان بصورة عامة، ولكن أيضًا عن نفسه، وهو يعلم أنّ "القضاء عليه" لا يمكن أن يحصل، مهما كبرت التضحيات. لكلّ هذه الأسباب، فإنّ الحزب لا يعتبر أنّ أحدًا تخلّى عنه، بل إنّه يعتقد أنّه إذا ما احتاج للإسناد، لن تتأخر إيران وغيرها في تلبية النداء، فهل تتدحرج الأحداث، ويصبح هذا السيناريو أمرًا واقعًا؟!.