هناك أيقونات متنوّعة للقدّيس يوحنّا الإنجيليّ اللاهوتيّ الذي تقيم له الكنيسة عيديْن في السنة، الأوّل في الثامن من شهر أيّار، والثاني في السادس والعشرين من شهر أيلول.
نتناول في المقالة ثلاثة أشكال من أيقوناته.
الشكل الأوّل: نراه بمفرده حاملًا الإنجيل المقدّس. تارة يكون مغلقًا وطورًا أخرى يكون مفتوحًا. كيف لا وهْو كاتب الإنجيل الرابع وثلاث رسائل وسفر الرؤيا. ملامح وجهه في الأيقونة مليئة بالتواضع. جبينه العريض يترجم عمق رؤيته اللاهوتيّة، وهو يلقّب بالنسر لأنّه حلّق باللاهوت، ويتمايز بهذا عن الإنجيليّين الثلاثة الآخرين متّى ومرقس ولوقا، ولإنجيله بُعدٌ خاص يسير بالمؤمن إلى الصليب، ويتكلّم بإسهاب وعمق كبيرين على العلاقة بين الآب والابن.
يصوّر يوحنّا كبيرًا في السنّ، وهو آخِر مَن دوّن الإنجيل، ورقد عن عمر يناهز المئة عامًا. صلعته واضحة مع خصلة شعر صغيرة أو شعر خفيف دلالة على كبر سنّه وأيضًا على الحكمة التي يتحلّى بها. طول ذقنه ملفت. عيناه غارقتان بالصلاة والتأمّل وفمه صغير لأنّ الله هو المتكلّم. أذناه كبيرتان لكونه يصغي بانتباه كبير إلى كلام الربّ يسوع المسيح.
لباسه شرقيّ أورشليميّ، فهو يلبس الرداء الذي كان سائدًا في عصره.
الشكل الثاني: الإنجيليّ يوحنّا يضع إصبعه على فمه وعلى كتفه ملاك مع جناحين إشارة إلى الوحي الإلهيّ. يُعرَف هذا الشكل من الأيقونات بـ "الإنجيلي يوحنا والصمت الإلهيّ". المقصود فيه الصمت الداخليّ.
هذا عنوان كبير للجهاد الروحيّ لا يصل إليه إلّا المجاهد عن حقّ وبصدق وتوبة عميقة وتسليم إلهيّ، عندها يصبح الإنسان متألّهًا وسكنى للروح القدس. فهو صمت الأهواء المعيبة القاطنة في أعماق نفوسنا. المؤمن المتّحد بالربّ يسكن فيه سلام الربّ الذي ليس من هذا العالم. وأكثر من ذلك، يصبح الإنسان مصدر تعزية وراحة للآخرين. هذا كلّه تحاول الأيقونة إظهاره في تعابير الوجه. لهذا الأيقونة هي وجه متألّه. وهنا تحديدًا، يتميّز مصوّر-كاتب أيقونات عن غيره، وذلك إذا نجح في جعل الناظر إلى وجه الشخص في الأيقونة يشعر بهذا السلام الإلهيّ. لهذا، الأمر الأصعب في الفنّ الإيقونغرافيّ، هو تصوير الوجه وما يضمّ وملامحه النهائيّة.
ونذكّر بأنّ الابتسامة والفم المفتوح وإظهار الأسنان كلّها غائبة عن الفنّ الإيقونغرافيّ، لأنّ المقصود الرصانة والثبات وليس الحزن طبعًا.
بالعودة إلى الملاك على كتف القدّيس يوحنًا، فهو يشير، في الغالب، إلى وقت كان يكتب فيه يوحنّا سفر الرؤيا. فالملاك يهمس سريًّا في أذن الإنجيليّ.
كم نحن بحاجة إلى إسكات ضجيج الخطايا التي تحاول سرقتنا في هذا العالم الجارف لكي نرجع إلى أنفسنا ونسمع صوت الربّ في داخلنا الذي يحاول دائمًا أن يرشدنا إلى الطريق المستقيم، طريق القائم من بين الأموات.
عندما كان الربّ يختلي للصلاة، كان يعلّمنا هذا الاختلاء. الاختلاء مفتاح الصلاة، وعلى كلّ واحد منّا أن "يغتصب" الوقت لينسحب ويختلي بنفسه مع الربّ ويصلّي، وإلّا وقعنا في تيهان ما بعده تيهان وأمسينا لقمة سائغة في مهبّ الريح، ولا نعود نعي هويّتنا السماويّة. فالاختلاء هو متنفّسنا في مسار حياتنا، وإبليس عدو الإنسان، بارع في إلهائنا بالأمور الدهريّة ومحاولة إقناعنا بأنْ لا وقت لدينا للاختلاء والصلاة لأنّ ثمارهما وافرةٌ جدًّا في حياتنا ومليئة بالنعم الإلهيّة، وهْو لا يريد خلاصنا.
يتكلّم الآباء القدّيسون عن الهدوئيّة Hesychasme وهي صلاة القلب. هي خبرة القدّيسين والقدّيسات الذين ثبتوا في الصلاة في الظروف كلّها، وجعلوا، بنعمة الربّ يسوع والروح القدس، فكرَهم وعقلهم وأحاسيسهم وجسدهم وروحهم واحدًا فاستنار ذهنهم. وهم الذين أحسنوا تطهير قلوبهم وتنقيتها وإزالة كلّ عائق بينهم وبين الربّ. ولا يظننّ أحد أنّ الهدوئيّة محصورة بالرهبان والراهبات. هذا غير صحيح إطلاقًا، بل هي في متناول كلّ إنسان جاد في سعيه إلى اللقاء بالله أينما وجد وفي أي ظرف كان.
الشكل الثالث: القدّيس يوحنّا الإنجيليّ في جزيرة باطموس يُملي على تلميذه بروخوريوس سفر الرؤيا. يوحنّا ينظر إلى فوق مصدر الوحي النازل عليه. وفي قسمٍ من هذا النوع من الأيقونات نشاهد يد الربّ تباركه، مثل أيقونة من القرن الخامس عشر لكاتب الأيقونات الكريتي Angelos Akotantos محفوظة في دير القدّيسة كاترينا في سيناء.
طبعًا، يوجد أشكال أخرى ومتنوّعة، حيث نشاهد مثلًا النسر والملاك في الأيقونة عينها، والثابت أنّ الجوهر يبقى واحدًا.
القدّيس يوحنّا الإنجيليّ صيّاد السمك هو أبرع لاهوتيّ في الكنيسة. تكفي هذه الكلمات لنفهم أنّ اللاهوت هو عيش وتنقية وتواضع وامتلاء من الربّ ومن محبّته اللامتناهية وترجمة المحبّة أفعالًا صادقة.
إلى الربّ نطلب.