الحَربُ جَبَروتٌ عارٍ حدَّ الجَبانَةِ. القائِمُ بِها مَهجوسٌ بالعُنفِ... لِغَلَبَةِ الحَياةِ. حَصرِيَّةٌ أم شُمولِيَّةٌ، هي هي بِناموسِها وَخُلاصاتِها: تَدميرٌ لِلحَضارَةِ، قَهرٌ لِلعَقلِ الباني.

البَشَرِيَّةُ إعتادَت تاريخَها تُدَوِّنُهُ هُدُناتٍ صُغرى بَينَ حُروبٍ طَويلَةٍ. تأفُلُ واحِدَةٌ فَتُؤَسِّسُ لِتالِيَةٍ، كَما الجُنونُ وَحدانِيَّةٌ تَتَوالَدُ مِن ذاتِها لِذاتِها. وَلِكُلِّ نَوبَةٍ مِن نَوباتِها طُقوسٌ وَشِعاراتٌ. مِنها، يَعودُ الباقونَ فُرادى يُغالِبونَ الخَيباتَ وَرُكامَ الأرضِ المَحروقَةِ أوِ السَليبَةِ أوِ المُدماةِ... إذ كُلُّ إنتِصارٍ، مَهما أينَعَ هَزيمَةٌ مُرجَأةٌ تُغالِبُ الحَقيقَةَ.

آهِ، الحَقيقَةُ!

ألَعنَةٌ أم مُعاكَسَةُ الطَبيعَةِ؟ خَديعَةٌ أم مَرساةُ نَجاةٍ؟

وَحدَهُ لبنانُ، وَسطَ تِلكَ الأُمَمِ المُترامِيَةِ بَينَ الهُدُناتِ والأنقاضِ، أدرَكَ أنَّ الحَقيقَةَ إرادَةٌ مُتَمِّمَةٌ لا لِرهاناتٍ وَلا لَمُغامَراتٍ، إنَّما لِمُعاكَسَةِ الأقدارِ.

وَحدَهُ لبنانُ، أمانَةُ الصَلابَةِ بالصَلبِ، وَسطَ إندِفاعاتِ الجيوبوليتيكَ، وَتَبَعثُرِ الذاكِرَةِ، وإنحِسارِ الجُغرافيا، أرسى أنَّ الحَضارَةَ لَيسَت لِهاثاً خَلفَ إستِقواءٍ وَلا تَطاولاً لإقتِناءٍ إنَّما ثَورَةَ إندِفاعٍ لِلخَلقِ. تُستَولَدُ. أتَموتُ؟ بَل تَقومُ لِأنَّها الحَياةُ لا اِغتِصابِيَّتُها. وَحُدودُها؟ لا الأوهامُ، وَلا الضَلالاتُ. بَل إتِّساعُ إمتِدادِ الزَمانِ في مَكانِ أسبَقِيَّتِهِ في إستيقاظِ روحٍ مُستَقِلَّةٍ، جَسورَةٍ، فَوَّارَةٍ في تَمَوُّجاتِ المَجالاتِ. مِنها يَستَمِدُّ كَياناً يَتَجَسَّدُ أطواراً.

وَحدَهُ لبنانُ؟

أجَل لِأنَّهُ تَشَكَّلَ طاقَةً تَجَوهَرت، فَتَمَركَزَت وأينَعت جَواباً لِسؤالٍ: مَن نَكونُ وَلِمَن؟ بالجَمعِ هو لا بالوَحدانِيَّةِ. مَشغولاً بِعَوالِمَ تَنَوُّعاتٍ لا مُنسَحِباً لإنكِفاءاتٍ فَردانِيَّةٍ، عُزلَتُها إنحِداراتٌ. فَلا حَياتُهُ بإنتِشاءِ تَألُّهٍ، وَلا مَوتُهُ بِحَياةِ إلَهٍ. وَتالياً حَضارَتُهُ لَيسَت مَنسوبَةً إلَّا لِجَوهَرِهِ.

أجَل، لأنَّ مُهلِكيهِ يُدرِكونَ حَقيقَتَهُ... أكثَرُ أحياناً مِن أبنائِهِ. فَكانَت لَهُمُ تَجرِبَةٌ ثُلاثِيَّةٌ أقصَتهُمُ وَما أبادَتهُ.

إستِبدادُ الطُغيانِ

لِلإسكَندَرِ المَقدونيِّ أن يَتَباهى بِتَدميرِهِ لِصورَ وَصَلَبِ شُبَّانَها المُدافِعينَ عَنها بِبُطولَةٍ آلافاً على شاطِئِها وَذبحِ مُقاوِميها نِساءً وأطفالاً، بَعدَ حِصارِهِ لَها سَبعَةَ أشهُرٍ، العامَ 332 قَبلَ الميلادِ، وَبَعدَما خَضَعَ لَهُ الشَرقُ مِن مِصرَ لِبِلادِ فارِسَ فالبِنجابَ مِن دونِ هَتفَةِ: لا. أسَقَطَ لبنانُ؟ بَلِ الحَضارَةُ الأرساها تَواصُلاً بالكَلِمَةِ والحِوارِ وَعَلَّمَها لِلغَربِ مِنَ الإغريقِ لِما بَعدَ أعمِدَةِ هِرَقلَ.

لِروما أن تَتَبَجَّحَ: "!Carthago Delenda Est"، يَجبُ أن تُدَمَّرَ قَرطاجَةُ! (المَدينَةُ-الجَديدَةُ، صورُ-الجَديدَةُ) ألأَعلَتها إليسارُ إبنَةُ مَلِكِ صورَ، بَعدَ حِصارِها لِلمَرَّةِ الثالِثَةِ مِنَ العامِ 149 الى العامِ 146 قَبلَ الميلادِ، وَبَعدَما أشاعَت وَحشِيَّةَ دَمٍ وَنارٍ ما شَهِدَها التاريخُ القَديمُ، فَخَضَعَت لَها إفريقيا بَعدَ الشَرقِ. أسَقَطَ لبنانُ؟ بَلِ الحَضارَةُ الأقامَها تَفاعُلَ طاقاتٍ وَجُرأةَ تَلاقٍ فَوقَ إعتِباراتِ الأعراقِ وَفُروقاتِ الذاتِيَّاتِ، على إمتِدادِ البَحرِ الأبيَضِ المُتَوَسِّطِ وَما أبعَدَ.

وَلِمُغالاةِ التَطَرُّفِ الدينيِّ أن يَتَبَجَّحوا بِتَّسيِّسِ الدينِ وَجُنوحِ تَقيِّدِهِ إثرَ إخضاعِهِمِ بيزَنطيَةَ العامَ 1453 ميلادِيَّةَ، ألأسهَمَ لبنانُ في إتِّقادِ شُعلَتِها بِطُلاَّبِ مَدرَسَةِ بَيروتَهُ وَعُلَمائِهِ. أسَقَطَ لبنانُ؟ بَل الحَضارَةُ ألوَطَّدَها تَحاورَ أديانٍ بِوَجهِ إنحِرافاتِ الإنكِفاءاتِ وَتَغَرُّبِها.

في إستِبدادِ الطُغيانِ الأوَّلِ، إنطَلَقَ تَباعُدُ الشَرقِ عَنِ الغَربِ كَرَدَّةِ فِعلٍ حَدَّ النَبذِ. وَفي الثانيَ، تَكَرَّسَ الصِراعُ بَينَ الغَربِ والشَرقِ حَدَّ الإلغاءِ. وَفي الثالِثِ، إنفَجَرَ الصِراعُ الدينيُّ بَينَهُما وَفي داخِلِهِما حَدَّ التَلاغِيَ.

لبنانُ-جَوابُ-تاريخِهِ، لبنانُ-النَجاةُ، لا سُقوطَ فيِه، بِوَجهِ إعتِصاماتِ الحُروبِ المُتُبادِلَةِ بَينَهُما تَشَفِيَّاً... حَدَّ بُلوغِ هذا الطورِ مِن تاريخِهِما اللافِظِ أنفاسَهُ الأخيرَةُ.

وَحدَهُ لبنانُ!

آهِ، حَقيقَتُهُ أهلَكَت مُهلِكيهِ وَما أدرَكوا... وَهو يَرتَقي مَلاذاً مُوَحِّداً لِحَياةِ حَضارَتِهِ-الحَضارَةِ الثُلاثِيَّةِ المَرامِيَ.