يعيش اللبنانيّون أزمة تفوق التصوّر والعقول، الأمر الذي ينعكس سلبًا على أعصابهم، وأفكارهم، ومعنويّاتهم. هذا أمر طبيعي في بلد تتراكم أزماته منذ بداية السبعينيّات، علمًا أنّ لكلّ مرحلة أسبابها وخلفياتها وأبطالها وشياطينها ومحرّكيها.
لا تخلو مرحلة، منذ ذلك التاريخ، من دون أن نتخبّط بأزماتٍ وصراعاتٍ وحروب تحت عناوين متعدّدة، فقدنا من خلالها السلام والآمان والاستقرار، والشعور بالأمل والرجاء.
وما يعيشه بعض من اللبنانيين لمظاهر الترف، ليس ناتجًا عن السلام المنشود، كما يدّعي البعض، إنما هروبًا من واقع أليم يعيشونه بكل ما للكلمة من معنى. بعض الحفلات والسهرات، هنا وهناك، لا تلغي الإحباطات التي يشعر بها معظمنا. صحيح أنّ شعبنا يحبّ الحياة، لكن ما منّه الله علينا من امتيازات ومن طبيعة جميلة، شوّهناه نحن بحروبنا وحروب الآخرين على أرضنا، وانتهكنا عذريّته ونكّلنا بقداسته. ثمّ نعود ونسأل أين السلام المنشود؟.
ليس من سلام ننشده على الأرض، إلّا اذا انسكب علينا من فوق. لا سلام عند البشر من دون تدخّل إله السلام، كلّ سلام يأتي من البشر ليس بسلام.
ورد على لسان السيّد المسيح: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ" (يوحنا ١٤: ٢٧). كان الحديث هنا موجهًا للتلاميذ، إلا أنّه يتجاوزهم ليطال البشرية كلّها في كل زمان ومكان. فميراث الآباء لأبنائهم قد يكون مالًا أو جاهًا، أما ميراث المسيح وعطيّته، فهو سلام يفوق العقل ولا يفهمه العالم. لا يقدّم المسيح السلام كما يقدّمه العالم، تحية كلامية شكلية، بل هو بركة حقيقية تتمثل في تقديم ذاته لمؤمنيه. هذا السلام لا يمكن للعالم بكلّ إمكانياته أن يقدمه للمؤمن، ولا بكل أحزانه أن يسحبه منه.
النتيجة الطبيعية لهذا السلام، هي ثبات القلب وعدم خوفه واضطرابه، مهما كانت الأهوال، ومهما كانت الحروب. ولعل أزهى برهان على ذلك، هو حالة آبائنا الشهداء في وقت عذاباتهم، فقد كان سلامهم وهدؤهم محيّرًا وغير مفهوم للذين كانوا يعذّبونهم.
في خضمّ هذه الوقائع التّعيسة والمخيفة التي نعيشها، لا يمكننا إلا أن نسعى لنعيش سلام الله الحقيقي. لا السلطة ولا المال ولا ملذات الجسد ولا السهر ولا السفر ولا المجد الدنيوي يجلبون لنا السلام، إنّها سعادة وقتيّة، في حين أنّ الصلاة والصوم وأعمال الرحمة والمسامحة والغفران والتواضع وطول الاناة، "والعفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبة" قواعد أساسيّة على المؤمن أن يرتكز عليها ليعرف السلام الحقيقي والدائم، دون أن ننسى الاعتراف بذنوبنا وعيوبنا وعدم إدانتنا للآخرين. عندها فقط ندرك ونعيش سلام الربّ الحقيقي الهابط علينا من لدن أب الأنوار، فلا نعد نشعر عندها بالخوف والحزن واليأس والإحباط. هذا هو إلهنا الذي "الذي يُعزينا في كلّ ضيقتنا، حتّى نستطيع أن نُعزّي الذين هم في كلّ صيقة بالتعزية التي نتعزّى نَحْنُ بها من الله." (2 كو 1: 4).