ممنوع في لُبنان، بُلوغ "فائض القُوة"، بَغض النظر عن سُبل استثمار هذه القُوة. ومن هُنا العودة إلى مقولة لَطالما كُنا نسمعُها ونحن فتيان بعد، ومفادها أن "قُوة لُبنان في ضعفه".
لقد ترددت هذه المقولة بوتيرة مُرتفعة بُعيد اندلاع حرب الآخرين على أرض لبنان، في العام 1975.
وأما اليوم، فيأتي زلزال اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله"، السيد حسن نصر الله، الجمعة 27 أيلول 2024، ليُذكرنا بتلك المقولة التي لم نكُن نفهمها في مُنتصف سبعينيات القرن الماضي، وما زلنا نرفضها بعد حوالي نصف قرن. غير أن الوقت قد يكون ضاغِطا على اللُبنانيين اليوم، لإعادة النظر بخارطة طريق، تقيهم الزلازل السياسية والعسكرية، إذا كانت معالم "الشرق الأوسط الجديد"، التي تلوح في الأُفق، تسمح لهم "باستلحاق" الخلاص، إن هُم أحسَنوا تدبُر أمرهم، وأحسنوا قراءة تاريخا عصريا، لم يعتبروا منه، بل واجهوه فرادى، أو انهُم تماشَوا مع شُروطه مُستسلِمين.
بشير الجميل
الزلزال العسكري الأول، كان في اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل، في يوم عيد الصليب المُقدس، في 14 أيلول 1982. على رُغم أن "فائض القُوة" لدى "القُوات اللُبنانية" التي كان الشيخ بشير قائدها، قد جَيَّره للُبنان، كُل لُبنان. حتى صار، وعن حق، "شهيد الـ 10452 كلم2".
غير أن "فائض القُوة" ممنوع أن يُهدى إلى اللُبنانيين، ولو بمُختلف مشاربهم وطوائفهم واتجاهاتهم السياسية.
لقد دفع المسيحيون ثمن لُبنان الحُر السيد المُستقل، تهميشا واستقصاء، في ما بعد. واستمرت "ارتِدادات" ذاك الزلزال إلى يومنا هذا، وصولا إلى أزمة رئاسة الجُمهورية وتداعياتها... فالطبقة السياسية الحاكمة الآن، لم تعِ بعد، خطر الفراغ في الرئاسة الأُولى. بل إنها شنت حملة على "المارونية السياسية"، التي لو بقيت لما انهار لبنان!.
رفيق الحريري
هو ذو وزن إقليمي ودولي، جَيَّره للقضية اللُبنانية، وبخاصة خلال "عناقيد الغضب". ذاك "الاسم الرمزي" الذي أطلقه جيش الاحتلال الإسرائيلي، على هُجوم عسكري خاطف ضد لُبنان، في 1996، ولمدة 16 يوما، في مُحاولة "لإنْهاء قصف حزب الله شمال إسرائيل". في تلك الفترة قامت "إسرائيل" بأكثر من 1100 غارة جوية وبقصف شامل (حوالي 25132 قذيفة)...
ولكن وزن رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، اقليميا ودوليا، جنب لُبنان الأسوأ. وإلا لكان الإسرائيلي تمادى أكثر وأكثر، في اعتداءاته على لبنان.
وما "عناقيد الغضب" ومواجهتها ديبلوماسيا، إلا من باب المثال لا الحصر، على "فائض قُوة" الشهيد رفيق الحريري. لذا كان لا بُد من كسره، لأنه يُشكل عائقا أمام "الشرق الأوسط الجديد".
وتاليا، لو لم تتم تصفيته جسديا، لما كُنا وصلنا إلى الزلزال العسكري الثّالث، في 27 أيلول 2024.
لقد دفع الثمن السياسي لـ "فائض القوة"، هذه المرة، أهل السُنة، وَهنًا وتهميشًا وانقسامًا... مُنذ 14 شباط 2005.
وبعد اغتيال رفيق الحريري بسنة وخمسة أشهر، كانت حرب إسرائيلية جديدة على لُبنان، في 12 تموز 2006.
واستمرت الحرب الإسرائيلية الثانية على لُبنان، حتى 14 آب 2006، إلى أن دخل تطبيق قرار «وقف الأعمال العدائية» الذي نص عليه القرار 1701 لمجلس الأمن الدولي، حيز التنفيذ.
ونص القرار 1701 على "إنهاء العمليات القتالية من كِلَي الجانبين، وإضافة 15000 جندي لقوة «يونيفيل» لحفظ السلام مع انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى الخط الأزرق، وانسحاب قُوة حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب اللبناني.
وبعد وقف إطلاق النار، أشاد الرئيس السوري بشار الأسد بما سماه "أنتصارا لحزب الله في معركة مجيدة" ضد إسرائيل في لُبنان. بينما قال نظيره الإيراني آنذاك، محمود أحمدي نجاد، إن "حزب الله أفشل خُطط الولايات المُتحدة للسيطرة على الشرق الأوسط". وبتعبير آخر، أعاق "حزب الله" المضي في تنفيذ خارطة "الشرق الأوسط الجديد".
حسن نصرالله
لم يرق للإسرائيلي "انتصار الحزب" في حرب تموز 2006، فبدأ يُعد العدة للثأر من "حزب الله"، إلى أن أعلن الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله "حرب مُشاغلة العدو، إسنادا لغزة"، في 8 تشرين الأول 2023. وقد مهدت الأحداث المُتسارعة دراماتيكيا، للثأر الإسرائيلي "الموعود"، ومنها مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في أيار 2024، في حادث تحطُم مروحية، كانت تقله والوفد المُرافق، في منطقة جبلية وعرة شمال غربي البلاد.
ومن ثم جاء انتخاب الرئيس مسعود بزشكيان ليُعزز آمال الإصلاحيين في إيران، بعد سنوات من "هيمنة" المُحافظين والمُتشددين على منصب الرئاسة. ولكن لتلك "النقلة الإيرانية"، تداعياتها على صعيد العلاقة مع "حزب الله"...
لقد وفى بزشكيان، المعروف بانفتاحه على الغرب، بوعد كان أطلقه في أول تصريح له بعد إعلان فوزه، أن "يمد يد الصداقة إلى الجميع"... فحافظ مُنذ وصوله إلى السلطة على خطاب الود هذا...
غير أن الشارع الشيعي في بيروت، أحس بتخلي إيران عنه، في خضم "حرب المُشاغلة" نصرةً لغزة... ولكن لا مجال للتراجع الآن!.
كما واستفاد الإسرائيليون من خرقهم الاستخباراتي لـ"حزب الله"، وتفوقهم التكنولوجي. وكذلك استفادوا من الدعم الأميركي المفتوح لهُم. فإسرائيل هي أكبر مُتلق للمُساعدات العسكرية الأميركية. وقد قدمت الإدارات "الجمهورية" و"الديمقراطية" المُتعاقبة، بالتعاون مع مجلسَي "الكونغرس"، المُساعدات إلى إسرائيل، من دون رفض شعبي يُذكر.
وترى "النُخبة السياسية" الأميركية، أن مُساعدة إسرائيل تخدم مصالح أميركا في الشرق الأوسط، وبخاصة في ظلّ الدعم الداخلي القوي لإسرائيل، ولضرورة الحفاظ على أمنها.
وتوازيا، فقد جاء تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية المُفخخة، التي كان يحملها آلاف من عناصر الحزب في منتصف أيلول 2024، ليُعيد اتصالات الحزب "إلى العصر الحجري".
إنها عناوين للزلزال الثالث الكبير في لُبنان: اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله"، السيد حسن نصر الله.
ويُظهر مقطع "فيديو" للجيش الإسرائيلي، قاذفات مُقاتِلة من طراز (إف-15)، وهي تُقلع من قاعدة "حتسريم" الجوية (جنوب) لتنفيذ العملية. وقبل الساعة 18،30 بقليل بتوقيت بيروت، سُمع دوي انفجارات قوية في أنحاء بيروت.
وتزامن اجتماع لـ "حزب الله"، مع انعقاد الجمعية العُمومية للأُمم المُتحدة في نيويورك، حيث كان "رئيس الوزراء الإسرائيلي"، بنيامين نتانياهو. ونشر مكتب الأخير لاحقا، صورة تُظهره لحظة مُوافقته على الضربة، في قرار اتخذه "في فندقه في نيويورك"، وفق صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، يُشير تحليل مقطع "فيديو" إلى أن الطائرات المُشاركة في الهُجوم كانت "مُجهزة بما لا يقل عن 15 قنبلة تزن كُل منها 2000 رطل" (نحو 900 كلغ).
وقال مسؤولون كبار للصحيفة إن "أكثر من 80 قنبلة أسقطت على مدى دقائق عدة، "لقتل حسن نصرالله"، فيما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن المخبأ أُصيب بـ"80 طنا من القنابل".
ولقد جاءت "تصفية إسرائيل" للسيد حسن نصرالله، في قصف عنيف يوم الجمعة الماضي على ضاحية بيروت الجنوبية، نتاج عملية تجسُس لافتة، توَجت عملا استخباراتيا استمر سنوات عدة، ما سلط الضوء على "الاختراق العميق للحزب"، بحسب خُبراء.
ووفق صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أمضت إسرائيل أشهُرا في التخطيط لاستخدام "سلسلة من التفجيرات" للوصول إلى المخبإ الموجود أسفل المباني السكنية حيث كان نصرالله، على أن "يعقب كل تفجير تفجير آخر".
هذه المرة دفع الشيعة ثمن "فائض القُوة"، وتغيُر المشهد الإقليمي لغير صالحهم، على حد سواء.
وأما بعد، من الصعب التكهن بالآثار طويلة المدى لاغتيال السيد حسن نصرالله، على عمليات "حزب الله".
الدولة العلمانية
ليس من المُحتم أن يبقى شعار "قُوة لبنان في ضُعفه" معمولا به، ولكنه يبقى أفضل وأقل ضررا من "الإفراط في إظهار فائض القُوة"، وبخاصة إذا ما جرى "التمادي" في استنهاض الحقل المُعجمي الخاص بالعددية، والأكثرية، والأقلية، على ما جرى التداول به في لُبنان في الفترة الأخيرة.
وإن الخطاب الطائفي الفئوي والتهميشي للشُركاء في الوطن، لا تستفيد منه إلا الجهة المُراهِنة على تفتيت المنطقة طائفيا ودينيا، ما يُسهل "إمرار" مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي لن يبقى لبنان فيه على شكله الحالي!. ومقولة "قُوة لُبنان في ضُعفه"، لا يُمكن الاستغناء عنها إلا إذا استُبدلَت بالدولة المدنية في لُبنان. ومن قال إن الوقت لم يحن بعد، لتشييد الدولة العلمانية، على أنقاض "فوائض القُوة الطائفية"؟.