تعيش اسرائيل اليوم، وتحديداً رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، نشوة ما بعدها نشوة، خصوصاً بعد اغتيال الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وهي الضربة الاقوى والاقسى للحزب وللبنان بشكل عام على المديين القصير والطويل. ومن يتابع تصرفات اسرائيل بعد المصيبة التي حلّت بالحزب، يمكنه ان يلاحظ انها باتت اكثر ثقة وقوة، وهي "سيطرت" على لبنان من دون اجتياحه وتواجدها فيه، فتفرض شروطها الجويّة (تختار من تريد من شركات ودول ان تحط طائراتها في مطار بيروت، وتمنع من تشاء)، ولا حاجة للحديث عن البحر وقدرتها على فرض شروطها البحرية بفعل تفوقها العسكري البحري، فيما تجبر مواطنين على مغادرة منازلهم ومناطقهم، ليس فقط في الجنوب، بل ايضاً في الضاحية الجنوبية لبيروت، واخيراً عمدت الى منع الجنوبيين من استعمال آلياتهم ومركباتهم للتنقل. بمعنى آخر، تسيطر اسرائيل على لبنان، مستغلة حالة الضياع المنطقي للحزب بعد اغتيال الرأس المفكر والمدبّر الذي صنع الحزب وواكبه على مدى اكثر من ثلاثة عقود.
اليوم، يتحدثون عن اجتياح برّي اسرائيلي للجنوب، ولكن اسرائيل نفسها تتحدث عن عمليات صغيرة ومحدودة عبر قوات خاصة، وبطريقة تختلف كلياً عن اجتياح عام 2006، فما السبب؟ من الواضح ان الضربة التي تعرض لها الحزب قصمت ظهره، وهو بحاجة الى القيام بأمر ما لالتقاط انفاسه واعادة الاعتبار الى الصورة التي كان عليها قبل اسابيع قليلة فقط، وهذا الامر لا يمكن ان يتم من خلال اطلاق صواريخ على اي جهة حتى ولو استهدفت تل ابيب، لان مفعولها محدود ولا توازي الضربة الهائلة التي تعرّض لها الحزب. الفرصة الاكثر ترجيحاً لافساح المجال امامه للنهوض، هي نجاحه في تكبيد الاسرائيليين خسائر كبيرة في هجوم برّي من المفترض ان يكون قد اعدّ له على مدى سنوات طويلة، واذا تكرر مشهد العام 2006، فعندها يمكن الحديث عن العودة الى الساحة.
هذا الامر تفهمه اسرائيل تماماً، ومن ورائها الداعم الاميركي، لذلك كانت التحذيرات ولا تزال تنهال من مغبّة القيام باجتياح واسع المدى، ومن الواضح ان الامر لا يتعلق بالخوف على حياة الابرياء من اللبنانيين، بل حرصاً على عدم التفريط والاطاحة بكل ما تم تحقيقه حتى اليوم. لذلك، من غير المرجح ان تفسح اسرائيل المجال للحزب ان يجرّها الى حيث يريد، من هنا اعلانها انها ستقوم بـ"عملية بريّة" ضيقة ومحددة، وكل التعابير التي تؤكد عدم حصول الاجتياح، وتأييد اميركا والحلفاء لها في هذا المجال.
ما يهدف له نتنياهو هو اكمال ما حققه من "انجازات" بالنسبة اليه، عبر اذية الحزب في الميدان، ليظهر بذلك ان الأخير لم يستطع مقاومته حتى في الاطار الذي يرغب به، وعندها فقط قد يفتح المجال للجلوس الى طاولة المفاوضات او قبول الاقتراحات والتسويات المطلوبة، انما وفق شروط القوة التي يتمتع بها، والتي تؤمّن له نيل ما يشاء حتى ولو كان على حساب لبنان، وما الحديث عن رغبة في تغيير اتفاق ترسيم الحدود البحرية سوى البداية، كما يمكن عندها ايضاً فهم الترويج الاعلاني لتشجيع الاسرائيليين على شراء قصور ومبان فخمة في الجنوب اللبناني (الذي تدّعي اسرائيل انه ارض اجدادها، في تناقض فاضح لسياق التاريخ والواقع).
حزب الله يترقب الفرصة الميدانية لاعادة اعتباره، فيما تحرص اسرائيل على تفويت هذه الفرصة عليه، فما الذي ستحمله المقبل من الأيام، ولصالح من ستكون النتيجة التي ستترك تداعيات مهمة مستقبلاً؟ وحده الميدان من يمكنه الاجابة على هذا السؤال.