على الرغم من أنّ الهجوم الإيراني الواسع على إسرائيل الذي وُضِع ضمن عناوينه الانتقام لاغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، إضافة إلى الردّ المؤجَّل على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، ما أسهم في رفع معنويّات جمهور شعر بنوعٍ من الإحباط وربما الاستسلام، إلا أنّ الأنظار بقيت مركّزة على موقف الحزب نفسه، الذي كان لافتًا أنّ أيّ وعيد بالثأر لأمينه العام لم يصدر رسميًا عنه.
وعلى مدى الأيام الماضية، عمد "حزب الله" إلى تكثيف عمليّاته العسكرية على خط الجبهة في الجنوب، رافعًا من وتيرتها بشكلٍ ملحوظ، في محاولة للتأكيد على أنّه لا يزال يحتفظ بأوراق قوته، وأنّه لم يتأثر عمليًا باغتيال قيادات الصف الأول فيه، ولا سيما أمينه العام، وللتأكيد في الوقت نفسه على ثباته على المعادلات التي كان السيد نصر الله قد أرساها في المقام الأول، خصوصًا لجهة عدم وقف العمليات قبل انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة.
بالتوازي، اعتمد الحزب ما يمكن اعتباره "تكتيكًا سياسيًا" مختلفًا عمّا كان سائدًا في السابق، فعمد إلى تكثيف إطلالاته الإعلامية، بدءًا من كلمة نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، التي توخّت "طمأنة" الجمهور بشكل أو بآخر، وصولاً إلى الجولة الإعلامية التي نظّمها على عدد من المباني السكنية المتضرّرة في الضاحية الجنوبية، وما بينهما إطلالات إعلامية لعدد من المسؤولين في الحزب، ممّن كانوا غائبين عن الإعلام منذ بدء الحرب.
وفي السياق نفسه، كان لافتًا أيضًا عدم اكتفاء العلاقات الإعلامية في "حزب الله" بالبيانات العسكرية المعتادة، حيث أصدرت أكثر من بيان لنفي بعض ما يروّج له الجانب الإسرائيلي، وذلك في سياق التصدّي لما تصفه بـ"الحرب النفسية والدعائية المكشوفة"، فهل يمكن القول استنادًا إلى كلّ ما تقدّم، أن الحزب استوعب صدمة الاغتيالات المتكررة، وخصوصًا اغتيال أمينه العام، وبالتالي أنّ المعركة بدأت تستعيد توازنها، الذي فُقِد في الأسبوعين الأخيرين؟
الأكيد بحسب ما يقول العارفون، أنّ صدمة اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله تبقى أكبر من القدرة على الاستيعاب، لدرجة أنّ جزءًا من الجمهور لا يزال يصرّ على "عدم التصديق"، بل تبنّي فرضيّات أقرب إلى الخيال، تتقاطع على أنّه "لم يمُت"، إلا أنّ الثابت أيضًا وفق العارفين، أنّ الحزب يعمل على امتصاص هذه الصدمة، والتطلّع إلى مواصلة ما بدأه من وصفه بـ"أعظم شهدائه وأسماهم"، على مستوى الصراع المفتوح مع إسرائيل.
بهذا المعنى، يُفهَم المغزى من الأداء الإعلامي المستجدّ للحزب في الأيام الأخيرة، إذ يهدف إلى التأكيد أنّ الاغتيالات الأخيرة، على قساوتها، لم تكسره، وأنه لا يزال قادرًا على استكمال المواجهة، ويحتفظ بالكثير من أوراق قوته، ويوجّه رسالة بأنّ بنيته العسكرية لا تزال قوية ومتينة، رغم كلّ الضربات التي تكبّدها في الآونة الأخيرة، وذلك خلافًا لكلّ ما يروّج له الجانب الإسرائيلي عن فقدانه للجزء الأكبر من ترسانته الصاروخية.
وإذا كان "حزب الله" من خلال أدائه الإعلاميّ هذا، يسعى أيضًا إلى الوقوف في وجه الحرب النفسية والدعائية التي ظنّ الإسرائيلي أنّه حسمها لصالحه، فإنّه أيضًا يوجّه رسائل إلى بيئته الحاضنة بأنّ جسمه الداخلي لا يزال موحَّدًا أيضًا، وأنّ ترتيب هيكليته التنظيمية قائم على قدم وساق، عملاً بالخطط البديلة التي كان السيد نصر الله قد كرّسها، وقوامها أنّ لكل قائد من ينوب عنه في حال الغياب لأيّ سبب كان، وهو ما تمّ تطبيقه.
أما بالنسبة إلى الأمانة العامة، التي شغرت باغتيال السيد نصر الله، فيؤكد العارفون بأدبيّات "حزب الله" أنّ اختيار البديل سيتمّ قريبًا جدًا، وفقًا للآليات المتّبعة، كما أكد الشيخ نعيم قاسم في كلمته الأخيرة، التي أريد منها التأكيد على هذه النقطة تحديدًا، كما التأكيد على أنّ الأمور ستكون سَلِسة وسهلة، ولو أنّ بين الاعتبارات التي تُدرَس في هذا الإطار، أنّ الحِمل سيكون ثقيلاً جدًا، على من سيتمّ اختياره، ولا سيما أنّ "كاريزما السيد" لا تعوَّض بسهولة.
انطلاقًا من هذه العناوين التي يحاول "حزب الله" التأكيد عليها في أدائه الإعلامي والعسكريّ، يتحدّث العارفون عن "أولويات" يضعها في اعتباره في المرحلة المقبلة، من بينها ترتيب وضعه الداخلي، والصمود في وجه العدوان الإسرائيلي المتمادي، والتصدّي خصوصًا للتوغّل البري الذي يكثر الحديث عنه، لكن من بينها أيضًا "ردّ متناسب" على الاغتيال، ينتظره الناس بطبيعة الحال، حتى لو أنّ الردّ الإيراني خفّف قليلاً من الضغط في هذا السياق.
يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الردّ على اغتيال السيد نصر الله لا بدّ أن يكون مطروحًا على الأجندة، ولا سيما أنّ الحزب يعرف جيّدًا أنّ تمرير جريمة بهذا الحجم من دون ردّ، منفصل عن أيّ هجمات لمحور المقاومة، سيترك انطباعًا سلبيًا لدى جمهور المقاومة، وربما "جمهور السيد" الذي يُعتقد أنّه أوسع من الأول، والأخطر من ذلك، أنّه سيوجّه رسالة سلبية تناقض استراتيجية "توازن الردع" التي راكمها الحزب تاريخيًا، وخصوصًا منذ حرب تموز 2006.
وإذا كان صحيحًا أنّ أيّ حديث عن هذا الردّ لم يصدر صراحة عن مسؤولي الحزب، لا في بيان نعي السيد نصر الله الذي خلا من أيّ إشارة إلى "الثأر"، ولا في كلمة الشيخ نعيم قاسم، التي غابت عنها هذه الجزئية أيضًا بشكل لافِت، إلا أنّ العارفين يقولون إنّ ذلك جاء ترجمة للتكتيك الجديد الذي أعلن السيد نصر الله نفسه عنه في آخر إطلالاته قبيل الاغتيال، حين أطلق المعادلة الشهيرة حول أنّ "الحساب سيأتي والخبر هو ما ترون لا ما تسمعون".
وإذا كانت هذه المعادلة تسري بطبيعة الحال على التعامل مع اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله"، الذي اعتمد تكتيك "الصمت" أيضًا بعد اغتيال قادة "وحدة الرضوان"، فلم يخرج بإطلالة متلفزة كما كان يفعل في السابق، فإنّ العارفين يشيرون إلى أنّ ذلك لا يعني أنّ موعد الردّ قد يكون في وقتٍ قريبًا، انسجامًا مع أولويات الحزب في الوقت الحالي، وانتظارًا لنضوج الظروف المناسبة، بعيدًا عن أيّ انفعال أو تسرّع، ولا سيما أنّ تشييع السيد لم يحصل بعد.
في النتيجة، قد يكون الحديث عن "استيعاب" صدمة اغتيال السيد نصر الله من جانب "حزب الله" صعبًا، بل ربما غير واقعيّ، حتى إنّ المتخصّصين في علم النفس يعتقدون أنّ "تصديق" ما جرى في المقام الأول قد يحتاج لفترةٍ طويلة، لا تقلّ عن أشهر. إلا أنّ "امتصاص" الصدمة هو ربما ما حصل، مع إصرار الحزب على مواصلة درب أمينه العام، ولا سيما أنّ أيّ تراجع لن يُعَدّ خيانة لدمائه فحسب، بل إعلان "هزيمة" لن تكون في مصلحته!.