بالتزامن مع ذكرى مرور عام على عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالتالي على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تفرّعت عنها حروب دموية بالجملة، قد لا تكون آخرها تلك الوحشيّة التي تشنّها إسرائيل على لبنان منذ أسابيع، تبدو المنطقة على فوهة بركان بأتمّ معنى الكلمة، حيث ترتفع أسهم الحرب الإقليمية الشاملة إلى الذروة، بعد تأرجح أسهمها صعودًا وهبوطًا على امتداد الأشهر القليلة الماضية.
لعلّ جريمة اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله شكّلت النقطة "الفارقة" في هذا السياق، إذ إنّ القاصي والداني يدرك أنّ إسرائيل عندما ارتكبتها، كانت تدرك أنّها تنقل الصراع بموجبها إلى مكان مختلف، بدليل أنّ المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم حين أعلنوا عن "هدف" الهجوم، دعوا إلى الاستعداد لما وصفوها بـ"أيام صعبة وثقيلة تنتظرهم"، ولو أنّ ردّة الفعل الأولية على الجريمة بدت "باردة"، ولم ترقَ لحجمها برأي كثيرين.
وإذا كانت إيران نالت "نصيبها" من انتقادات المحسوبين على المحور الذي تقوده قبل خصومه، ممّن وصل بعضهم لحدّ اتهامها بإبرام "صفقة نووية" على حساب حلفائها، باعت بموجبها الحزب وقادته، مقابل وعود أميركية مستترة، فإنّها سارعت في محاولة ربما لـ"تبييض صفحتها"، إلى تسديد ضربتها المؤجَّلة على إسرائيل، منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، مضيفة "الانتقام لنصر الله" إلى عناوين الهجوم هذه المرّة.
وعلى الرغم من تفاوت وجهات النظر بالهجوم الإيراني، بين من اعتبره نوعيًا وقويًا، وبالحدّ الأدنى "فشّة خلق"، بعد سلسلة من الضربات القاسية والمؤلمة التي توازي "الانتكاسات"، ومن تبنّى وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية حول "فشله"، فإنّ الثابت أنّ الكرة أضحت في ملعب إسرائيل، التي يُقال في الكواليس إنّها تستعدّ للردّ بدورها على إيران، ردّ يخشى كثيرون أن يجرّ المنطقة بأسرها إلى الحرب الواسعة، التي قد تصبح أمرًا واقعًا...
في المبدأ، يقول العارفون إنّ الردّ الإيراني على إسرائيل شكّل "مفاجأة" للكثيرين، فهو بدا مختلفًا عن هجوم طهران في شهر نيسان الماضي، الذي وُصِف حينها بـ"المسرحية"، حتى قيل إنّ تفاهمات بالأصالة أو بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران بالحدّ الأدنى سبقته لضمان عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية لا يريدها أحد، إلا أن الأمر اختلف هذه المرّة، ولم تكن المدّة الفاصلة بين الإعلان عن الحدث ودخوله حيّز التنفيذ طويلة، ما يفسّر الاستنفار الكبير الذي أحاط به.
لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الهجوم كان ناجحًا بكلّ المقاييس، أو حتى أنه لم يشكّل "تقاطع مصالح" في مكانٍ ما بين أكثر من طرف، إلا أنّ المتحمّسين له يتحدّثون عن مؤشرات عديدة تدفع إلى الاعتقاد بأنّه كان "نوعيًا"، ونجح في تحقيق العديد من الأهداف، أولها "إيلام العدوّ"، من وجهة النظر الإيرانية، حتى لو صحّت الفرضية القائلة بأنّه لم يؤدّ إلى أضرار كبرى، أو إلى خسائر بشرية، يقول البعض إنّها لم تكن أصلاً ضمن "بنك الأهداف".
وفقًا لهؤلاء، فإنّ حالة "الإرباك" التي ظهرت عليها إسرائيل، والتي استمرّت لنصف ساعة من الوقت، قد تكون كافية للقول إنّ الهجوم حقّق الهدف المتوخّى منه، وهو ما تجلّى بدعوة جميع الإسرائيليين إلى النزول إلى الملاجئ في لحظةٍ واحدة، وإغلاق المجال الجوي الإسرائيلي أمام حركة الطيران، على وقع النقل المباشر على الهواء لسقوط الصواريخ في مواقع عدّة، من دون أن تتصدّى لها القبة الحديدية، بغضّ النظر إن أصابت أهدافها كما تقول إيران، أم لا.
وفقًا لهؤلاء، فإنّ الهجوم الإيراني الذي حمل عنوان الردّ على جريمتين فادحتين بحجم اغتيال هنية ونصر الله، فُصّل أساسًا على قياس توجيه "الرسائل"، لا الذهاب إلى "حرب"، وبعض هذه الرسائل موجّهة إلى "المحور"، وعنوانها أنّ طهران لا تزال ثابتة على مواقفها، وهي لم تَبِع أحدًا، وقد أحدث ردّها ارتياحًا نسبيًا لدى مؤيّديها، لكن أهمّها يبقى موجّهًا إلى أميركا وإسرائيل، ومفادها أنّ ما جرى هو "جولة أولى" قد تتبعها جولات أشدّ، في حال لم تُفهَم الرسالة.
في مقابل سرديّة المتحمّسين للرد، الذين وجدوا فيه نوعًا من "إعادة الاعتبار" لهيبة "الردع" التي فُقِدت، والتي بدأ "حزب الله" يستعيدها أيضًا من خلال تصدّيه للتوغل البرّي، الذي يبدو فعلاً أنه كان بانتظاره، تبرز السرديّة الأميركية والإسرائيلية في المقابل عن "فشل" الهجوم، الذي وُصِف بـ"الدعائي والمضخّم"، بدليل عدم تحقيقه أيّ هدفٍ يُذكَر، من دون أن يثني ذلك تل أبيب عن الوعيد بردّ "قاسٍ"، يُخشى أن يفتح باب الحرب الشاملة على مصراعيها.
ولعلّ موقف الولايات المتحدة في هذا المضمار يبدو مرّة أخرى مثيرًا للجدل، فإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي قيل إنّها "ضغطت" على طهران منذ اغتيال هنية لتأجيل، أو ربما إلغاء "ثأرها"، تحت عنوان عدم الانزلاق إلى الحرب، وهو ما ترجمته طهران بما وصفه مسؤولوها بـ"ضبط النفس"، انسجامًا مع سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي تتّبعها، لا تبدو قادرة على ممارسة ضغطٍ موازٍ على حليفتها إسرائيل، التي يدرك الجميع أنّ قرار الحرب يبقى بيدها.
وقد يكون نافرًا في هذا الإطار، ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن عن أنّ إدارته "تناقش" الموقف من احتمال توجيه إسرائيل ضربات على منشآت نفطية إيرانية، مع تكراره ثابتة أنّ "لديها الحقّ في الردّ"، وهو "الحقّ" نفسه الذي سمح لإسرائيل بشنّ حربٍ دموية على غزة ولبنان، باتت فاتورتها الإنسانية "أثقل" من القدرة على التحمّل، وقد تخطّت بحسب التقارير الأممية، فواتير معظم الصراعات والحروب على مستوى العالم في التاريخ.
أكثر من ذلك، فإنّ "خطورة" تشريع هذا الحق لإسرائيل بالردّ، على الرغم من أنّ الهجوم الإيراني الذي لم يرقَ لمستوى جرائم تل أبيب كان في الأساس ردًا على اعتداءاتها المتكرّرة، تكمن في أنه يضع المنطقة بأسرها تحت النار، خصوصًا أنّ بعض التسريبات تحدّثت عن مخططات إسرائيلية خطيرة، تصل لحدّ ضرب المنشآت النووية، وهو ما يعلم الأميركيون وغيرهم أنه قد يكون كفيلاً بتفجير حربٍ إقليمية، بل عالمية في مكانٍ ما.
الكرة في ملعب إسرائيل مجدّدًا، يقول البعض، وهنا الخطورة الحقيقية، إذ إنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو "متعطّش" للحرب، بعدما كسر كلّ الخطوط الحمراء، ولم يعد يعطي اعتبارًا لأحد، وهو يستغلّ ربما المدة الفاصلة عن الانتخابات الأميركية لفعل كلّ ما يحلو له. ثمّة من يراهن على أنّ خصومه في المقابل، لا يريدون الحرب، بدليل الهجوم الإيراني الذي فُصّل كسوابقه على عدم الذهاب إليها، لكن هل من يضمن ذلك في ضوء "الجنون" الإسرائيلي؟!.