الأرضُ لِلبنانَ يَقينُهُ الأَوَّلُ. وجودُهُ لا وجودَ لَهُ إلَّا بِفَضلِهِ. وَجَوهَرُهُ يَتَذَهَّنُ لِأَبعَدِ حالاتِ الوجدانِ. بِذِلِكَ سيادَتُهُ. قُلّ: هو تَجَوهُرُ أرضٍ واعِيَةٍ. تِلكَ القُدرَةُ التي فيها، وَمِنها، حَميمِيَّةٌ تالوثِيَّةُ الإنبِعاثِ والإرتِقاءِ والبُلوغِ: في الروحِ، هي ثَوابِتٌ. في النَفسِ، هي بَواعِثٌ. في الجَسَدِ، هي تَحَوُّلٌ.
لبنانُ الأرضُ، جَسَدٌ يَحيا، نَفسٌ تَشعُرُ، روحٌ تَعقُلُ. وَبِخِلافِ الكارتيزيانِيَّةِ الأرساها ديكارتُ في القَرنِ السابِعِ عَشَرَ لِلميلادِ، والقائِمَةِ على نَفسٍ تُحَصِّلُ الفِكرَ وَجَسَدٍ يُحَصِّلُ التَوكيدَ، مِن دونِ الروحِ، بِحَيثُ باتَ يُمكِنُ لِوجودٍ أن يَتَصَوَّرَ ذاتَهُ بِلا جَسَدٍ وَجَوهَرٍ، مِن دونِ أن يَنعَدِمَ...، فإنَّ لبنانَ ثالوثِيَّةٌ مُجَسَّدَةٌ بأرضٍ، مَهما كانَ مِن أمرِ مُخاتِلٍ غِوايَتُهُ تَعطيلُهُ أو نَقضُهُ.
قُلّ: مِن مَنابِعَ الوَعي حَتَّى مَخابِىءَ ما وَراءَ الوَعي، لبنانُ ثالوثِيَّةٌ مُبرَمَةٌ بِوَجهِ جَبرِيَّاتِ الشَرخِ بَينَ جَسَدانِيَّتِهِ وَنَفسِهِ وَروحِهِ.
وانتَبِهِ: لا إندِماجَ بَينَ أقانيمَ ثالوثِيَّتِهِ الأرضِيَّةِ بَل إتِّصالٌ، فالإندِماجُ يَصهُرُ بِبَوتَقَةٍ غَيرَ مُبينَةٍ لِلوضوحِ. الإتِّصالُ إرتِباطٌ يُبقي جَوهَرِيَّةَ كُلِّ إقنُومٍ بارِزَةً بإمرَةِ وجودِها.
أجَل! لإدراكِ لبنانَ، صُعوبَةٌ لِأنَّهُ لَيسَ وَليدَ صِدفَةٍ بَل مُذ... أتَتِ الحَياةُ. هاكَ، تَذكيراً مُكَرَّراً، مَلحَمَةُ غَلغامِشَ السومَرِيَّةِ، أقدَمُ الكِتاباتِ البَشَرِيَّةِ بألواحِها الطينِيَّةِ بالُلغَةِ الأكادِيَّةِ والخَطِّ المِسماريِّ، الراوِيَةِ قِصَّةَ المَلِكِ غَلغامِشَ، مَلِكِ أوروكَ، الباحِثِ عَنِ الخُلودِ... فَما وَجَدَهُ إلَّا في لبنانَ، وَتَحديداً في غابَةِ أرزِهِ المَحروسَةِ. وإذ بِهِ "يَقِفُ أمامَ أشجارِ الأرزِ العَظيمَةِ" وَيَصرُخُ: "هي الغابَةُ التي تَحَدَّثَت عَنها الآلِهَةُ." (الَلوحُ الخامِسُ).
أجَل! لبنانُ الإدراكُ، أرضٌ مَقصودَةٌ، خَلقُها مُتَجَدِّدٌ، كما في طُقوسِيَّةٍ دينيَّةٍ مُذ... خُلِقَ الكَونُ. هاكَ تَذكيراً مُكرَّراً، كوسموغونِيَّةُ المؤَرِّخِ الأوَّلِ لِلبَشَرِيَّةِ سَنخوني أتُنُ البَيروتِيُّ حَيثُ الأرضُ لَيسَت مُجَرَّدَ مَكانٍ لِلعَيشِ، بَل كَينونَةً حَيَّةً تَتَفاعَلُ والكائِناتِ التي عَلَيها وَدَورُها التَشارُكُ في الحِفاظِ على تَوازُنِها وإستِقرارِ الكَونِ... وَ"لبنانُ وإخوَتُهُ أنتيلبنانُ، وكاسيوسُ، وَبَراثيُ أوَّلُ مَن إبتَدَعَ ذَبائِحَ البَخورِ على شَرَفِ خالِقِهِمِ، لِنَقلِ الكَونِ مِنَ الفَوضى إلى النِظامِ".
حَبَكَةُ عَهدٍ
في كوسموغونِيَّةِ سَنخوني أتُنُ هَذِهِ، لبنانُ-الأرضُ-الإنسانُ إنطَلَقَ وَكيلَ الحَياةِ وَدَيمومَةَ التَجَدُّدِ، لِيُستَدامَ شَبيهًا لِلأُلوهِيَّةِ، إذ في جَوهَرِهِ إكتَمَلَت صورَتَها الوجودِيَّةِ عَبرَ عَلاقَتِهِ بالمَخلوقاتِ والكَونِ.
لَيسَ في ذَلِكَ مِن عَجَبٍ إذ في الُلبنانِيَّةِ-الآرامِيَّةِ، كَلِمَةُ الأرضِ Yabbesheth تَعني في آنٍ مَعاً: الكَشفَ عَن هُوِيَّةٍ تُعَرِّفُ عَن نَفسِها بِنَفسِها، كَما عَن مَكانَةٍ في مُخَطَّطِ الأُلوهِيَّةِ. أهيَ مِعيارِيَّةٌ مَكانَةٌ-بَرَكَةٌ؟ بَل تَحديدٌ... لِحَبَكَةِ عَهدٍ. ألَيسَ الإلَهُ-الأبُ في الثالوثِيَّةِ الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ، إيلُ، "أبو الآلِهَةِ" و"خالِقُ الكونِ"، ألمَعبودُ مِن بيبلوسَ الى صورَ وَصَيدونَ، أوصى الإلَهَةَ-الأُمَّ بِ"زَرعِ السَلامِ في الأرضِ لِتَزدَهِرَ بِبَني البَشَرِ"؟
ذاكَ العَهدُ المَحبوكُ، حَمَلَتهُ صورُ وَصيدونُ مِن بيبلوسَ الى... قَبائِلَ اليَهودِ التي إحتَلَّتِ الأراضيَ التابِعَةَ لِمَملَكَتَيهِما، عَلَّها تَتَّعِظُ. لَكِنَّها أبَت. بَل فَصَلَتِ الأرضَ عَن مَفهومِها الآراميِّ-الُلبنانيِّ، وَمَيَّزَت بَينَ Haaretz (الوارِدَةِ 2500 مَرَّةً في العَهدِ القَديمِ)، وَAdammah (الوارِدَةِ 231 مَرَّةً). الثانِيَةُ قَصدُها زِراعِيٌّ مُتَوارَثٌ بَحتٌ، والأولى مَساحَةٌ مُقَيَّدَةٌ لِلتَسَلُّطِ عَلَيها. وَها آدَمُ المُنتَزَعُ مِنَ التُربَةِ- Adammahلاذَ بِعِصيانِ الأُلوهَةِ فَطُرِدَ. وأوَّلُ عَمَلٍ إرتَكَبَهُ المَطرودُ، سَليلَ آدَمَ: قَتلُ أخيهِ، فَنُفيَ هائِماً على وَجهِ الأرضِ ألغَطَّاها الطوفانُ وَعَمَّت فيها الفَوضى.
لبنانُ الأرضُ أمانَةُ الأُلوهَةِ لإئتِمانِ الإنسانِ.
الأرضُ لِلبنانَ حارِسَةُ الإنسانِ لِلعَهدِ-العَطِيَّةِ مَعَ الأُلوهَةِ.