لعلّها الحرب الأطول والأقسى والأكثر دمويّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تلك التي بدأت قبل عام من قطاع غزة بذريعة عملية "طوفان الأقصى" غير المسبوقة فلسطينيًا، وامتدّت إلى جنوب لبنان في اليوم التالي من باب "جبهة الإسناد" التي أطلقها "حزب الله" دعمًا للشعب الفلسطيني المُحاصَر، لتتصاعد بعد ذلك تدريجيًا لتشمل مختلف المناطق، حتى أصبحت الشهر الماضي ساحة كاملة لحرب منفصلة لا تقلّ دموية وعبثية ووحشيّة.
فعلى الرغم من أنّ عمر الصراع العربي الإسرائيلي هو من عمر إسرائيل، وأنّ تاريخه حافل بالحروب والصراعات والمجازر التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، إلا أنّ الحرب التي بات يصطلح على وصفها عالميًا بـ"حرب الإبادة"، خصوصًا بعدما وصلت المجازر التي ارتُكِبت فيها إلى أروقة المحاكم الدولية، تُعَدّ نقطة فارقة ومفصليّة فيه، علمًا أنّ "اليوم التالي" لها لا يزال غير واضح المعالم، وإن كان هناك من يسعى ليكون بمثابة "شرق أوسط جديد".
وإذا كان صحيحًا أنّ عملية "طوفان الأقصى" شكّلت سببًا مباشرًا للحرب، في لحظة "نشوة عربية" قلّ نظيره في الصراع مع الإسرائيلي، يخشى كثيرون أن تكون قد تحوّلت إلى "انكسار"، رغم المكابرة التي يصرّ عليها البعض، فإنّ ما لا يمكن تجاهله هو أنّ الصراع لم يبدأ في السابع من تشرين الأول 2023، بل إنّ "طوفان الأقصى" كان نتيجة لسياسات إسرائيلية، وصلت إلى ذروتها مع الحكومة اليمينية، المصنّفة على أنّها الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل.
اليوم، بعد مرور عامٍ كاملٍ على الحرب، التي يبدو أنّها لا تزال مفتوحة وبلا أفق، في ظلّ تعطّش إسرائيلي لارتكاب المزيد، على وقع رفع سقف الأهداف المنشودة، وصمت عالميّ مريب على المجازر، أو بالحدّ الأدنى عجز نافر عن وضع حدّ لآلة الحرب، ثمّة مراجعة ضروريّة مطلوبة، وأسئلة لا بدّ من طرحها، فما الذي تحقّق عمليًا بعد عام كامل على الحرب، وإلى متى يستمرّ الجرح مفتوحًا، وهل من فسحة أمل وسط الصورة السوداوية؟!.
يقول البعض، شتّان ما بين السابع من أكتوبر 2023، والسابع من أكتوبر 2024، فقبل عام، شكّلت عملية "طوفان الأقصى" مفاجأة من خارج كلّ التوقعات، بل كانت أقرب إلى الخيال، لكنّ المفاجأة التي وُصِفت إيجابية أضحت "صدمة" بكلّ ما للكلمة من معنى بعد عام، إذ لم يكن أقصى المتشائمين يتوقّع أن تستمرّ الحرب عامًا كاملاً، وأن تتمدّد بين الجبهات بهذا الشكل، وأن تصل التضحيات التي قُدّمت على أكثر من مستوى إلى هذا الحجم العصيّ على التصديق.
ففي قطاع غزة مثلاً، ثمّة فاتورة بشرية ثقيلة جدًا قُدّمت، ولا تزال تقدَّم بوتيرة يومية، رغم الانشغال الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة بجبهة لبنان، في حين تشير كلّ الوقائع والمعطيات إلى أنّ القطاع ما عاد صالحًا للحياة، بعدما ارتكبت فيه إسرائيل ما اعتبرت محكمة العدل الدولية نفسها بأنّه يرقى لمستوى الإبادة، ناهيك عن الأوبئة والأمراض التي انتشرت على امتداده، فضلاً عن المجاعة التي تفشّت فيه، رغم كلّ التحذيرات التي صدرت عن المنظمات الدولية.
وفي لبنان، يبدو أنّ السيناريو نفسه يتكرّر، ولو بأشكالٍ مختلفة، فما حصل في الأسبوعين الأخيرين فقط كان فادحًا، وقد تخطّت فاتورته البشرية تلك التي تكبّدها لبنان على امتداد شهر كامل في حرب تموز 2006، لكنّ فاتورته المعنوية تبدو أكبر، مع الاغتيالات غير المسبوقة للبنية القيادية في "حزب الله" بالكامل، فضلاً عن أزمة النزوح والتهجير، التي تبدو أكبر من قدرة الدولة على مواكبتها، وسط مخاوف من انفجار اجتماعي غير مسبوق أيضًا.
بالمُجمَل، يقول العارفون إنّ فاتورة الحرب كانت أكثر من ثقيلة على كل المستويات، سواء في غزة أو في لبنان، علمًا أنّ أحدًا لم يكن يتوقع قبل عام حجم التضحيات، خصوصًا على مستوى "حزب الله" في لبنان، الذي تعرّض لضرباتٍ مؤلمة وقاسية لم يكن يتحسّب لها، نتيجة اختراق لا يزال غير مفهوم بالكامل، وقد أدّى إلى استهداف إسرائيل لأمينه العام السيد حسن نصر الله، الذي لم يستطع الحزب للمفارقة حتى الآن، تأمين ظروف مناسبة وملائمة لتشييعه.
لكن، على الرغم من هذه الصورة "السوداوية" الظاهرة، جاءت المواقف في ذكرى مرور عام على الحرب لتؤكد على الصمود والمقاومة، وعلى النصر الآتي بكلّ تأكيد، فـ"حزب الله" أكد أنّ "زمن الهزائم ولّى وجاء نصر الله"، فيما اعتبرت حركة حماس أنّ معركة طوفان الأقصى "حطّمت الأوهام" التي رسمتها إسرائيل لنفسها، فعلى ماذا يراهن هؤلاء عمليًا لإنهاء الحرب، وكيف تُفهَم مواقفهم، وقبل ذلك، هل من فسحة أمل حقيقية وسط الخراب؟!.
يقول العارفون إنّ النقطة الجوهرية التي ينطلق منها هؤلاء، هي أنّ إسرائيل قفزت إلى الأمام من خلال الاغتيالات النوعيّة والمجازر المروّعة، وضربت فصائل المقاومة من "الثغرة الحسّاسة" المرتبطة بالبيئات الحاضنة لها، لكنّها لم تنجح حتى الآن في تحقيق الأهداف المُعلَنة من حربها، وفي مقدّمها "القضاء على حركات المقاومة"، من حماس في غزة، إلى "حزب الله" في لبنان، بدليل أنّ صورة "اليوم التالي للحرب" غير ناضجة بالنسبة إليها بعد.
وإذا كانت الاغتيالات التي حصلت، خصوصًا على مستوى قيادة "حزب الله"، من أمينه العام السيد حسن نصر الله، إلى معظم القادة العسكريّين في صفوفه، تركت تأثيرها الكبير في بنية الحزب، فإنّ هناك من يشير إلى أنّ المشكلة التي قد تواجهها إسرائيل هي أنّها حتى لو استطاعت فرضًا "القضاء" على الحزب، كما تريد، فإنّها ستواجه "جيلاً جديدًا" بات الآن أكثر التصاقًا بالقضية، خصوصًا إذا ما طبّقت نظرية "إسرائيل الكبرى" التي تنادي بها.
صحيح أنّ الأهداف "الهامشية" التي تحقّقت قد تكون أكثر تأثيرًا من الأهداف الرئيسية التي لم تتحقّق، ولا سيما بالنظر إلى معاناة الناس وتضحياتهم، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه المعركة حقّقت الكثير على مستوى العالم، فإسرائيل خسرت الرأي العام العالمي إلى حدّ بعيد، والقضية الفلسطينية عادت إلى الصدارة بعد مرحلة طويلة نسبيًا من التغييب، الذي وصل إلى ذروته مع اتفاقات أبراهام، التي يرى البعض أنّ العودة إليها بالزخم نفسه لم تعد ممكنة.
لكن بالموازاة، ثمّة أمر آخر أظهرته هذه الحرب من غزة إلى لبنان، يكمن في ازدواجية المعايير الغربية، بين إدانة "طوفان الأقصى" وتبنّى "حقّ" إسرائيل بالدفاع عن نفسها، وبين إدانة هجمات "حزب الله" والسكوت على المجازر والجرائم، وأخيرًا إدانة الهجوم الإيراني على إسرائيل وتجاهل الاستفزازات الإسرائيلية الحقيقة، ليبقى السؤال عمّا تنتظره هذه الدول للانتقال من موقف "المتفرّج"، إلى "الضاغط" لإنهاء حرب، أضحت في مكانٍ ما عارًا على الإنسانيّة!.