مع مرور عام على الحرب في غزة، يواجه الاقتصاد الإسرائيلي أزمة خانقة تتمثل في خسائر اقتصادية جسيمة تجاوزت كل التوقعات، ما يعكس الأثر العميق الذي تركته هذه الحرب على البنية الاقتصادية للبلاد. فقد شهد الاقتصاد الإسرائيلي تراجعًا ملحوظًا في أداء العديد من القطاعات الحيوية، بما في ذلك التكنولوجيا والسياحة والزراعة، بالإضافة إلى زيادة التكاليف العسكرية التي أثقلت كاهل الميزانية العامة.
الأزمة النقدية وقيمة الشيكل
تحت ضغط هذه الحرب المستمرة، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم الدعم المالي للسكان في المناطق المتضررة، ما أدى إلى توفير إقامات مؤقتة ورعاية للنازحين، وزيادة العبء المالي على كاهل الدولة في وقت تتزايد فيه التحديات الأمنية والاقتصادية. كما شهد الشيكل الإسرائيلي تراجعًا ملحوظًا أمام العملات الرئيسية، وتشير التقديرات إلى أن قيمة العملة الإسرائيلية تراجعت بنسبة 5% على الرغم من ضخ البنك المركزي الإسرائيلي قرابة 30 مليار دولار للحفاظ على قيمة الشيكل، وقد أثر ذلك على رصيد إسرائيل من احتياطيات النقد الأجنبي ما أثر سلبًا على ثقة المستثمرين في السوق الإسرائيلية.
خفض التصنيف الإئتماني
هذا التراجع في الثقة على مستوى الاستثمار أدى بدوره إلى خفض التصنيف الائتماني للبلاد من قبل وكالات التصنيف الدولية، حيث خفضت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات الائتمانية تصنيف إسرائيل على المدى الطويل من "إيه+" (A+) إلى "إيه" (A) جرّاء المخاطر الأمنية المتزايدة في ضوء التصعيد الأحدث في الصراع مع حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى خطر اندلاع حرب أكثر مباشرة مع إيران. وكانت وكالة موديز من ناحيتها قد خفضت تصنيف إسرائيل الائتماني درجتين إلى "بي إيه إيه1" (Baa1) الأسبوع الماضي، وحذرت من خفضه إلى درجة "عالي المخاطر" إذا تحوّل التوتر الحالي المتصاعد مع حزب الله إلى صراع واسع النطاق.
الهجرة وانكماش الاقتصاد
تفاقمت هذه التحديات في ظل تزايد ظاهرة الهجرة العكسية، حيث تراجعت النشاطات الاقتصادية بشكل عام، إلى جانب الاستدعاء المتكرر لقوات الاحتياط الذي أثّر سلبًا على قطاعات حيوية مثل الصناعة والخدمات. وفي تصريح لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أواخر أيلول، قال إن الاقتصاد الإسرائيلي على الرغم من الضغوط التي يعاني منها، إلا أنه يتمتع بالقدرة على الصمود.
ولكن، يبدو أن هذا التفاؤل لم يكن مدعومًا بالكامل بالواقع. حيث يتوقع خبراء الاقتصاد أن ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي أكثر، مع استمرار النزاع وتصاعد المخاطر المرتبطة به. وفي حين أن صندوق النقد الدولي كان قد توقع سابقًا نمو الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 3.4% لهذا العام، إلا أن التوقعات الحالية تتراوح بين 1% و1.9%.
الإنفاق العسكري عبء إضافي
على الرغم من هذه التحديات، يحاول البنك المركزي الإسرائيلي الحفاظ على توازنات اقتصادية في ظل تسارع التضخم. إلا أن الإنفاق العسكري المتزايد، والذي بلغ تقديره نحو 250 مليار شيكل (66 مليار دولار) حتى نهاية العام المقبل، قد يعيق قدرة الحكومة على تحقيق النمو الاقتصادي المستدام. هذا الإنفاق الضخم يمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ما يزيد من العبء المالي للدولة.
تضاعف عجز الميزانية
تُظهر التقارير الاقتصادية أن الحرب تسببت في تضاعف عجز الميزانية الإسرائيلية إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 4% قبل بدء النزاع. هذا العجز الهائل ناتج عن ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي، حيث يطلب المستثمرون عائدات أعلى بسبب تدهور الثقة في السوق. ومع استمرار الحرب، ارتفعت التكاليف بصورة كبيرة، حيث تتوقع بعض الدراسات أن تتفاقم الأعباء المالية على الحكومة الإسرائيلية، ما سيؤثر بشكل كبير على مستقبل البلاد الاقتصادي.
خسائر قطاع التكنولوجيا
تأثر قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي بشكل كبير جراء الحرب المستمرة، إذ سجلت الشركات التكنولوجية تراجعًا حادًّا في الاستثمارات والأرباح. وانخفضت الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع بمعدل 30% مقارنة بالعام السابق، ما أثار مخاوف من تداعيات طويلة الأمد على نموه. كما أنّ شركات التكنولوجيا الكبرى شهدت تراجعًا في قيم أسهمها بنسبة تتراوح بين 15% و25%، ما أدى إلى خسائر تقدر بمليارات الدولارات.
وفي ظل هذه الأجواء، اضطرت شركات مثل "ون زيرو" و"أليف فارمز" إلى تسريح عدد من موظفيها بسبب عدم اليقين الناجم عن الحرب، ما يعكس تأثير النزاع على الروح المعنوية والإنتاجية. كما توقفت شركات التكنولوجيا الأجنبية، مثل دروبوكس، عن نشاطها في إسرائيل، ما زاد من تفاقم الأزمات داخل القطاع.
خسائر قطاع السياحة
في ما يتعلق بقطاع السياحة، شهدت إسرائيل انخفاضًا حادًّا في عدد السياح الأجانب، حيث قدرت وزارة السياحة الإسرائيلية أن الانخفاض في أعداد السياح أدى إلى خسارة تقدر بـ 18.7 مليار شيكل (4.9 مليار دولار) منذ بداية الحرب. كما انخفضت مستويات الإشغال الفندقية من أكثر من 80% قبل الحرب إلى أقل من 50% حاليًا، ما يزيد من الأعباء المالية على هذا القطاع الحيوي.
الشركات الصغيرة وخطر الإغلاق
علاوة على ذلك، يُظهر الوضع الاقتصادي القائم أن العديد من الشركات، خاصة الصغيرة منها، تواجه خطر الإغلاق بسبب عدم اليقين الناجم عن استمرار الصراع. وقد قدرت شركة "كوفاس بي دي آي" أن حوالي 60 ألف شركة إسرائيلية قد تغلق أبوابها هذا العام، مقارنة بمتوسط سنوي يبلغ نحو 40 ألف شركة، ما يعكس حجم التحديات التي تواجهها البنية الاقتصادية.
انخفاض نسبة العمالة
كما أن القطاعات الأخرى، بما في ذلك الزراعة والبناء، تعاني بشكل كبير، حيث انخفضت تصاريح العمل للفلسطينيين، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الخضراوات وتراجع معدلات بناء المساكن. وفي الوقت نفسه، تواصل القوات الإسرائيلية استدعاء قوات الاحتياط، ما يؤثر على نسبة العمالة في الشركات.
تأثيرات طويلة المدى
لقد كانت تلك الأحداث الاقتصادية الناتجة عن الحرب لها تأثيرات طويلة المدى، حيث حذر خبراء الاقتصاد من أن الأضرار قد تستمر لفترة أطول بعد انتهاء النزاع. وقد أشار العديد منهم إلى خطر تدهور الاستثمار في القطاعات الاقتصادية، ما يهدد بتحويل إسرائيل إلى دولة ذات اقتصاد ضعيف.
ومع تصاعد التوترات في المنطقة، فإن الآثار الاقتصادية لهذه الحرب لن تقتصر على إسرائيل فقط، بل ستمتد لتشمل الدول المجاورة أيضًا. ومع تزايد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لتحقيق استقرار مالي، تظل التحديات الاقتصادية قائمة، ما يتطلب إستراتيجيات فعالة للتعامل مع هذه الأزمات المتعددة.
خلاصة القول، إن الحرب التي تعيشها غزة منذ عام قد تركت آثارًا واضحة على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث أدت إلى خسائر كبيرة وتحديات غير مسبوقة في مختلف القطاعات. بينما يسعى القادة الإسرائيليون إلى تقديم خطط للانتعاش، يبدو أن الواقع الاقتصادي يستدعي إعادة النظر في السياسات المالية والاستثمارية ما يمثل تحديًا صعبًا في ظل الظروف الاستثنائية والمتوترة التي تمر بها المنطقة والعالم.