وقوف الكنيسة بآبائها القدِّيسين سدًّا منيعًا في وجه الهراطقة ودفاعًا عن الأيقونات، خاصَّة في المجمع المسكونيِّ السابع عام ٧٨٧م، الَّذين نقيم تذكارهم غدًا، كان إعلانًا أنَّ عبادة الله الَّذي تجسَّد بيننا هي عبادة تخطَّت كلَّ القوانين والشرائع والمفاهيم وفتحت باب المحبَّة على مصراعيه، لتقول إنَّ المسيحيَّة ليست دينًا، بل علاقة (Pas une religion mais une relation). فإن كان الخوف أن يُدَنَّس االله بالتصوير، فمستحيل أن يُدنِّسه شيء لأنَّه صاحب السلطان وكلِّيُّ القوَّة والقدرة.
تهبُّ قلوبنا فرحًا مع الآباء لتصوير الله المتجسِّد، إذ كان في العهد القديم الأمر مستحيلًا لأنّه لم يكن قد تجسّد بعد.
وهو الذي أوصانا قديمًا ألا نصنع تمثالًا منحوتًا، ولا صورةً ما ممَّا في السماء من فوقُ، وما في الأرض من تحتُ، وما في الماء من تحت الأرض، ولا نسجد لهنَّ ولا نعبدهُنَّ، لأنِّه الربَّ إلهنا، وهو إله غيور،(خروج 20: 4-5)، وذلك كي لا يقع الشعب القديم في الوثنيّة ولا يعبد الله ولا يسجد له.
أمَّا في العهد الجديد فكيف لنا ألَّا نفرح بتجسُّده ولقائه بنا، ولا نعبّر عن فرحنا بالكلمات والصلوات والترانيم والأناشيد والأيقونات التي تمثّل الرب وقدّيسيه؟ وبالطبع نحن لا نصنع شيئًا ليس له علاقة بالرب.
نحن ننظر إلى الأيقونة لنعود أيقونة لأنَّنا خُلِقنا أيقونة على صورة الأيقونة الأولى، ألا وهي الربُّ الخالق، فيكون وجه الله الأيقونة الأولى الَّتي خلقنا الله عليها، وبالتالي الإنسان هو أيقونة ووجه، والأيقونة هي وجه إلهيٌّ.
ما أكَّد عليه الآباء القدِّيسون في المجمع لم يكن على الإطلاق جديدًا، أو مستحدثًا في الكنيسة، بل على العكس تمامًا، فالفنُّ الكنسيُّ والجداريَّات هي من القرون الأولى، والآثار تثبت ذلك. كذلك الدفاع عن التصوير الكنسيِّ في الجداريَّات والأيقونات وعلى الأقمشة والفسيفساء كثيرة ولا تُعدُّ، وهي أيضًا من القرون الأولى. هذا هو جمال التسليم الشريف المتناقل بالروح القدس من جيل إلى جيل، وهذه هي أهمِّيَّة المجامع المسكونيَّة في الكنيسة أنَّها تعلن ما هو معيش وما هو مسلَّم من الربِّ والرسل الأطهار والآباء والقدِّيسين والقدِّيسات. هذا هو إيماننا منذ البداية! فلنفرح إذًا معًا ولنترافق في كتابة الأيقونة وتصوير محتواها، لأنَّها نافذة إلى الملكوت السماويِّ المعيش منذ الآن، والَّذي افتتحه الربُّ يسوع المسيح بمجيئه إلينا وصلبه وقيامته من بين الأموات، وقيامتنا معه إذا نحن أردنا.
وللتأكيد، ما مرَّ عصر في الكنيسة من دون فنٍّ كنسيٍّ، منذ القرون الأولى إلى تاريخنا المعاصر، وهذا الفنُّ مستمرٌّ بنعمة الروح القدس.
الأيقونات متنوِّعة، فهناك أيقونات للربِّ ولوالدة الإله والقدِّيسين والقدِّيسات ولأحداث إنجيليَّة وعجائب وشفاءات.
الأيقونات على اختلافها تظهر الوجوه رصينة لأنَّها في الحضرة الإلهيَّة، والأشخاص فيها أصبحوا سكنى للروح القدس.
هناك شيء لافت، فكثيرًا ما نشاهد أيقونات تظهر قدِّيسين في أماكن تشير إلى الجنَّة المرجوَّة. هذا مرتجى حصل وتحقَّق بالربِّ، ويدعونا إليه لنكون معه.
فالآباء القدِّيسون بجهادهم وبنعمة الروح القدس وصلواتهم حوَّلوا أماكن الصحراء القاحلة والأماكن الوعرة إلى واحات روحيَّة، فكانوا هم حضورًا إلهيًّا لاتِّحادهم بالإله. لهذا نستشفُّ منهم السكنى الملكوتيَّة، وهم يذكِّروننا بما ينتظرنا من مجد وفرح وسعادة وسلام وطمأنينة، إن أحسنَّا الالتصاق بالربِّ في حياتنا واستمدَّينا قوَّتنا منه. حتَّى الحيوانات المتوحِّشة والمفترسة أصبحت سلاميَّة بجانب القدِّيسين.
قديمًا، تضمَّنت الملاحم والأساطير والأدب والشعر مدائح، تحت ما يسمَّى «Panégyrique»، فقالت عن أبطال أقاويل مبهرة لما حقَّقوه بقوَّتهم الخاصَّة. أمَّا مع القدِّيسين فنجد أيضًا كتابات رائعة وتصاوير مع فرق جوهريٍّ أنَّ الكلام هو على ما حقَّقه القدِّيسيون بقوَّة الربِّ فيهم. فالإنسان في المسيحيَّة قيمة إلهيَّة وأيقونة، وقوَّته هي من فوق. فنجد مثلًا عند الشاعر اللاتينيِّ Virgile (70 ق م) وعند غيره ما يسمَّى بـ « Locus amoenus» أي المكان الرائع النيِّر البهيِّ والجميل الَّذي يشتهي كلُّ إنسان أن ينتقل إليه ويخرج من «Locus terribillis» أي المكان المزعج والباعث على الاضطراب، وحتَّى المرعب.
إلَّا أنَّ المسيحيَّة تعطي الجواب القاطع والدامغ في ذلك. فما حلم به الشعراء والفلاسفة قديمًا من مكان راحة، ما كان إلَّا مناشدة الروح لخالقها لترتاح فيه، وأتى الربُّ ليحقِّق لنا ذلك فلا نعيش في اضطراب داخليٍّ مهما كانت الظروف والصعاب.
لهذا مثلًا، تصوِّر الأيقونة الوجوه نورانيَّة ورصينة، لتقول إنَّ السلام المنشود الَّذي أعطانا إيَّاه الربُّ وللقدِّيسين، خير تأكيد على ذلك.
نعم هذه هي الأيقونة، بصمة نورانيَّة وإلهيَّة لملكوت سماويٍّ يعاش من الآن.
إلى الربِّ نطلب.