مرة اخرى، نجحت اسرائيل بجرّ الولايات المتحدة الى حربٍ في الشرق الأوسط. ومرة أخرى، تحاول الدولة العميقة فرض سيطرتها على المنطقة العربيّة من خلال ما أسمتهُ "شرق أوسط جديد". فبعدما فشلت كوندوليزا رايس، مهندسة الخارطة عام 2006، يحاول اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إكمال المهمّة التي وقّعت عليها كل من الولايات المتحدة والناتو وحكومته الحالية.
تدهور الوضع في ظل دعوات أمميّة ودولية لإيقاف دوامة القتال دون جدوى، وأصبحت واضحةً خارطةُ الحرب التي تعدّت حزب الله وقادته، الذين تساقطوا مع أوراق خريف أيلول من هذا العام، وصار الهدف احتلال الجنوب والبقاع وبيروت وسوريا والكويت ومصر وكل شمال السعودية حتى مدينة مكّة المكرّمة، في خارطة واسعة تسمّى دولة اليهود، كما جاء على لسان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي أضاف "ان قدر القدس ان تمتد الى دمشق".
أحلام اسرائيل واسعةُ الجغرافيا، وأحلام الولايات المحتدة واسعةُ التجارة، والهدف واحد: القضاء على أذرع الصين في الشرق الأوسط، حزب الله وحماس والحوثيين، حتى تتمكن اميركا من بسط سيطرتها على الغاز وطُرق التجارة العالمية في الشرق.
ومع تطور الآلة الحربية الإسرائيلية، استفاقت أحلامُ إسرائيل الماضية، التي تشمل مياهَ الليطاني التي لا غنى عنها في سنوات الجفاف المقبلة، ومزارعَ شبعا السياحية، وجارَ القمر، جبل الشيخ، لؤلؤة جبال لبنان، المطل على المتوسط.
إسرائيل في خطر وجودي، وهي تحارب بأسلحة أميركية لبسط سيطرتها على المنطقة. وأميركا في خطر وجودي اقتصادي أيضاً، تعمل على مواجهة التنين الصيني والدبّ الروسي. فحجم التجارة بين الصين وروسيا ازداد 26.3 % في العام الماضي. وقد تحدَّيا العقوبات عبر إنشائهما سوقاً بديلة للنفط الخاضع للعقوبات، حيث تكون المدفوعات مقوّمة بالعملة الصينية. كما ان التهديد الآتي اليوم، وفي غفلة عن انشغال الولايات المتحدة في انتخاباتها الرئاسية، هو أنّ دول البريكس سوف تطلق، في قمتها في روسيا في 22 تشرين الاول الجاري، مشروعَ عملةٍ جديدة في مواجهة الدولار الأميركي. برنامج يوجع أميركا، خاصة عندما يأتي من مجموعة دول تشكل تجارتها 43% من حجم الاقتصاد العالمي
لم يعد خافياً على أحد سبب الدمار الهائل الذي ألقته اسرائيل في غزة ولبنان، ولو اختلف الأفرقاء اللبنانيون على موضوع مَن جرّ لبنان الى الحرب، لأنّ اسرائيل لن تقف عند اغتيال الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وقادة الحزب، وتشريد ثلث الشعب اللبناني، الذي لم يجد وسادة له سوى أرصفة الطرقات في بيروت. ان القصة ليست قصة "رمّانة"، إنما برامج "مليانة" غازاً ومياهاً جوفية ومواقعَ استراتيجية.
ومَن يراهنْ على من سيكون أفضل للمنطقة في رئاسة البيت الأبيض يكنْ واهماً، لأن الإدارات الأميركية تخطط لخمسين سنة مقبلة، سواء أكان الديمقراطي او الجمهوري رئيساً للبلاد. ومن يراهن على من يربح الحرب بين المقاومة واسرائيل، ليس عليه النظر في خسارة الأرواح والبنيان فحسب، إنما خسارة المقدرات المالية والاقتصادية لكل فريق. ففي حين دمّر العدو لبنان وجعل الجنوب والضاحية الجنوبية نسخة مصوّرة عن غزة، فالشعب اللبناني في الأصل "منتوف" كان قد خسر قبل الحرب وبعدها مدّخراته في المصارف؛ ولا حاجة الى تكرار أسباب السرقة الموصوفة في تاريخ جمهوريات العالم. ولكن اسرائيل خسرت العشرات من المليارات من استثماراتها ورساميلها الهاربة الى قبرص والدول الأوروبيّة، كما خسرتْ شركة "إنتل" Intel، اكبرَ شركات التكنولوجية، المتخصصة برقاقات ومعالجات الكومبيوتر، التي ألغت عقدها مع إسرائيل المقدّر بقيمة 20 مليار دولار. وفضلاً عن ذلك، فوسط تفاقم المخاطر الجيوسياسية مع استمرار الحرب، انخفض تصنيفُ إسرائيل الائتماني بمقدار درجتين دفعة واحدة، الأمر الذي سوف يصنّفها بأنها دولة غير صالحة للاستثمار. ولائحة الخسارات تطول... من هنا نفهم مدى شراسة العدو في الحرب، والكمَّ الهائل من الدمار الذي يُلحقه بلبنان، البلدِ المعذّب من قادته قبل جيرانه.
وتمرّ السنون... أربعة عقود ونصف تفصلنا عن تصريح الدبلوماسي الكبير، الوزير الراحل غسان تويني، الذي صرخ في الجمعية العامة عام 1978: "أتركوا شعبي يعيش". والبارحة وصل وزير الخارجية عبد الله بو حبيب حاملاً صور شهداء وجرحى تفجير "البايجر"، وعرضها على أعضاء مجلس الأمن في مشهد بكت له العيون. مشهدان أليمان سوف يكتبهما التاريخ عن لبنان المصلوب على خارطة الشرق الأوسط. إنّ للحروب، حتماً، نهايةً ووقفَ إطلاقٍ للنار ولو بعد حين، والأكثرَ وجعاً سوف يستسلم عند أول دعوة للمفاوضات.
الأمم المتحدة-نيويورك