لا يوجد بلد في العالم مثل لبنان، فهو الوحيد الذي يمكنه خلق معضلات من رحم المشاكل المستعصية التي تضربه. ففي خضم الحرب الشرسة التي يتعرض لها من قبل رئيس الوزراء الاسرائيلي المجنون بنيامين نتنياهو وآلاف الشهداء والجرحى والدمار المروع، وفي ظل ازمة اقتصادية ومالية لم يتعاف منها بعد، يأتيك من الخارج من يطرح عليك انتخاب رئيس للجمهورية قبل وقف اطلاق النار، مع التشديد على ان هذه الخطوة تشكل الطريق الملزم لوقف الحرب واستعادة لبنان عافيته، وكأنه يضعنا امام المعضلة الشهيرة: من ظهر قبلاً البيضة ام الدجاجة؟.
بهذه البساطة والسخافة، يتم تصوير الامر بأن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان -مع التشديد على ان البلد المعني هو لبنان- سيكون مفتاح باب الفرج. ينسى هؤلاء او يتناسون ان هذه السخافة تخطاها الزمن، ولا بد من اعادة المنطق والواقعية الى الصورة، هل يدرك هؤلاء ان لبنان ليس محكوماً بنظام رئاسي على غرار الولايات المتحدة او فرنسا او روسيا او سوريا او غيرها من الدول التي تتبع هذا النظام؟ هل يعلمون ان نظامه برلماني وان النواب مقسّمون وفق الطائفية والتيارات السياسية والاحزاب؟ واكثر من ذلك، هل يذكرون ان رئيس الجمهورية لا قدرة له على التصويت في مجلس الوزراء وهو لا يأخذ القرارات بل يشجع على تبنّيها في افضل الاحوال، وانه في حال لم تأخذ السلطة التنفيذية او السلطة التشريعية برأيه سيكتفي بالوقوف متفرجاً؟ هنا يأتي فوراً من يقول ان الرئيس السابق العماد ميشال عون عارض وفرض اموراً كان يريدها على غرار اتفاق ترسيم الحدود البحرية (وللتذكير فقط، حتى مع كل النواب والوزراء الذين ايّدوه، هل كان الاتفاق ليمرّ لولا الموافقة الضمنية والصريحة لرئيسي مجلسي النواب والوزراء؟).. وكي لا ننحو الى النقاش العقيم، ومع تسليمنا جدلاً ان هذا ما حصل بالفعل، من اين سيأتي في هذا الوقت رئيس يتمتع بالشعبية التي كان يتمتع بها الرئيس السابق وبكتلة وزارية ونيابية مماثلة؟ اي من الاسماء المطروحة قادرة على الحصول على مثل هذا التأييد؟ ولنضع جانبا ًالكلام الشاعري القائل بأن للرئيس جميع الوزراء والنواب، وهو كلام معسول لا مكان له في الواقع حين تصل الامور الى حد الحسم، لانه لا يقدّم ولا يؤخر.
وحتى لو كان الهدف تقليص نفوذ حزب الله على الحياة السياسية اللبنانية، فانتخاب رئيس لهذه الغاية امر مستبعد لان هذا الرئيس نفسه سيكون من رحم مجلس نيابي يملك فيه الحزب كتلة نيابية وازنة، وتحالفات لا تزال قائمة وتؤثر على الساحة السياسية اللبنانية.
كيف يمكن لرئيس ان يوقف اطلاق النار اذا لم تتفق كل المكونات اللبنانية على الخطوط العريضة لهذا الاتفاق؟ الا اذا كان المطلوب ان يتمثل لبنان (شكلياً فقط) بشخصية توافق من دون شروط، على التسوية سلفاً، عندها لن يكون مهماً اسم الرئيس ولا صفاته ولا قدراته. من الطبيعي ان يكون لرئيس الجمهورية اللبناني بعض الصلاحيات، ولكنها تبقى محدودة جداً ومقيّدة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، ما لم يكن المطلوب ايضاً تغيير اتفاق الطائف والدستور اللبناني، عندها يمكن الحديث من منظار آخر، الا ان الارضية غير جاهزة بتاتاً لمثل هذا التعديل او التغيير الجذري، ويجب اليوم العمل بما نملك لاننا في ظروف غير طبيعية، وبعدها يصار الى البحث في تفاصيل ومعطيات اخرى.
كيف يمكن لرئيس منتخب خلال الحرب ان يحظى بثقة كل الناس؟ من المؤكد ان شريحة من اللبنانيين، كبيرة كانت ام صغيرة، سترى فيه امر واقع فرضته الحرب، وانه اتى على ظهر دبابة ستختلف هويتها (اميركية، اسرائيلية، اوروبية-عربية...) من دون ان تختلف النظرة اليه. لماذا اعتماد الهروب الى الامام من دون نتيجة؟ فلنتحدث من دون قفازات، ولنعترف جميعاً بأن غياب رئيس الجمهورية اثبت انه هامشي في ظل وجود مجلسي نواب ووزراء ولو بصفة تصريف اعمال او خلال تمديد او غيره. صحيح انه امر غير طبيعي وغير صحي، ولكن هذا هو الواقع اللبناني، ومهما جمّله الغربيون والعرب ومن يشاء، يبقى قبحه ملازماً للبنانيين، وليس هناك من تكافؤ في المسؤولية والصلاحيات، شاء من شاء وابى من ابى.
الاولوية اليوم لوقف اطلاق النار، وبعدها يتم كالعادة الاتفاق على اسم ليجلس على كرسي الرئاسة في بعبدا، ويتمتع ببعض الصلاحيات الرئاسية الداخلية الضيقة، فيؤيده الجميع في المرحلة الاولى قبل ان يبدأ الانقلاب عليه شيئاً فشيئاً مع انتصاف الولاية الرئاسية الى ان ينهي مهامه ومعها انتهاء العلاقة مع قسم كبير من اللبنانيين...