لم يكن اغتيالاً نوعيًا ولا استهدافًا دقيقًا بأتمّ معنى الكلمة، فرئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، الذي خلف إسماعيل هنية في رئاسة المكتب السياسي للحركة، سقط في اشتباك مسلح فوق الأرض في منطقة تل السلطان برفح، وفق الرواية الإسرائيلية، التي أظهرت "ارتباكًا" استمرّ لساعات طويلة، نتيجة اكتشاف الإسرائيليين بالصدفة أنّ من قتلوه "يشبه" السنوار، وربما يكون هو، قبل أن يعلنوا "اغتياله رسميًا"، بنتيجة إجراء الفحوصات المطلوبة.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل حاولت بعد ذلك التراجع عن رواية "الصدفة" هذه، عبر الحديث عن معلومات استخباراتية كانت متوافرة لديها حول وجوده في المكان المُستهدَف، وإدراجها على لسان مسؤوليها العملية في خانة "التصفيات النوعية" التي نفذتها سابقًا في لبنان وفي غزة، إلا أنّ ما سُجّل للتاريخ كان أنّ "المطلوب الرقم واحد" لإسرائيل منذ عملية "طوفان الأقصى"، وربما قبلها، سقط بالصدفة، وليس نتيجة تفوق استخباراتي أو عسكري.
لا يقلّل ذلك من حجم "الضربة النوعية" التي حقّقتها إسرائيل بقتل السنوار، الذي كان مصنَّفًا إسرائيليًا على أنّه "العقل المدبّر" لهجوم السابع من تشرين الأول 2023، الذي دخلت إسرائيل من بعده حربًا دموية وعبثية لم تنتهِ فصولاً بعد، بعدما امتدّت من غزة إلى لبنان، ولا سيما أنّ إسرائيل سعت منذ اليوم الأول لاغتيال السنوار، في سبيل استعادة بعض من الهيبة التي فقدتها في "طوفان الأقصى"، من دون أن تنجح في إنجاز المهمّة طيلة عام كامل.
وفي حين سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتكرار ثابتة أنّ "المهمّة لم تنتهِ بعد"، بعد إعلانه عن العملية، تمامًا كما فعل يوم اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، حين قال إنّ لديه "أهدافًا أخرى يريد تحقيقها"، فإنّ أسئلة كثيرة تُطرَح حول تبعات اغتيال السنوار على الوضع في المنطقة ككلّ، وحول تداعياتها على الحرب العبثية في غزة ولبنان، وربما على مسار المفاوضات "المجمَّد" منذ أسابيع تبدو طويلة؟!.
في المبدأ، قد يكون صحيحًا أنّ عملية قتل يحيى السنوار، بالشكل الذي تمّت فيه، قد لا تسجَّل على أنّها "إنجاز نوعي" للإسرائيلي، الذي لم يكن يعرف أنّه اغتال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، وقد يكون صحيحًا أيضًا أنّ العملية كذّبت الكثير من الادعاءات الإسرائيلية حول "اختباء" الرجل تحت الأرض، وعدم تواصله مع أحد بالمُطلَق، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ العملية برمزيّتها الخاصة، لا يمكن إلا أن تترك تأثيرًا على الحرب في غزة.
ينطلق العارفون في شرح ذلك، من حقيقة أنّ السنوار لم يكن اسمًا عاديًا في حركة حماس، ولا في الحرب المستمرّة منذ أكثر من عام وعشرة أيام، وهو الذي يُعتقَد أنّه من خطّط على مدى سنوات لعملية "طوفان الأقصى" التي يعرف الجميع أنّها لم تكن وليدة ساعتها، وهو الذي يطارده الجيش الإسرائيلي منذ أن "ندم" على إخلاء سبيله بعدما كان أسيرًا يقبع في سجونه، فإذا بانتقامه يطيح بكل هيبة ما وُصِف يومًا بـ"الجيش الذي لا يُقهَر".
وإذا كان صحيحًا أنّ كثيرين يحمّلون السنوار مسؤولية الحرب المدمّرة التي لم تُبقِ حجرًا على حجر في غزة، ولو أنّ أحدًا لم يكن بوسعه أن يتكهّن بردّة الفعل الإسرائيلية غير المسبوقة التي كسرت في طريقها بالكثير من المسلّمات التاريخية، فضلاً عن أنّ القطاع المُحاصَر كان يعيش أصلاً على وقع الحروب المتكرّرة، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ سقوط السنوار سيشكّل ضربة قد تكون "الأقسى" في مسار هذه الحرب، بالنسبة للفلسطينيين.
استنادًا إلى ذلك، يقول البعض إنّ "حماس ما بعد السنوار" لن تكون كما قبل إعلان إسرائيل مقتله، علمًا أنّ نتنياهو لم يتردّد في القول إنّ "هذا هو اليوم التالي" الذي كثُر الحديث عنه منذ بدء الحرب، ولو أنّ صورة هذا "اليوم التالي" لم تنضج أو تتبلور بعد، بدليل قول نتنياهو نفسه إنّ الحرب "لم تنتهِ"، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ هذا الحدث سيشكّل "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، ولو أصرّت حركة حماس على القول إنّ لكلّ قائد "بديلاً جاهزًا".
بالحديث عن التبعات والتداعيات، يلفت العارفون إلى رأيين "متناقضين" إن صحّ التعبير، يميل الأول إلى اعتبار أنّ اغتيال السنوار يمكن أن "يعبّد" الطريق أمام نهاية الحرب، إذا ما خلصت إسرائيل إلى أنّها أنجزت المهمّة، فيما يذهب الثاني إلى اعتقاد أنّ الأمور ستتعقّد أكثر، وأنّ ما لم يكن مقبولاً في السابق لن يصبح مقبولاً اليوم، فأيّ الرأيين سيغلب الآخر، وكيف يمكن أن ينعكس كلّ ذلك على الجبهة اللبنانية المشتعلة بدورها؟!.
بالنسبة إلى غزة، يقول العارفون إنّ كل السيناريوهات والخيارات تبقى واردة، وإنّ مسار الأيام وربما الأسابيع المقبلة قد يكون مفصليًا لتحديد الوجهة، علمًا أنّ الرهان لدى كثيرين هو أن تؤدي هذه الضربة إلى دفع الفريقين إلى طاولة المفاوضات، شبه المقفلة منذ أسابيع طويلة، وقد كشف رئيس حركة حماس خالد مشعل في حديث تلفزيوني قبل أيام، أن المفاوضات متوقفة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، والانشغال العالمي بمجرياته.
أما بالنسبة إلى الجبهة اللبنانية، فيقول المطّلعون والمتابعون إنّها ولو كانت "مترابطة" بصورة أو بأخرى مع جبهة غزة، إلا أنّها أضحت "منفصلة" تكتيكيًا واستراتيجيًا عنها، خصوصًا مع إعلان "حزب الله" هذا الأسبوع الدخول في "مرحلة جديدة"، انتقل بموجبها من سياسة "المساندة" إلى "المواجهة"، ما يعني أنّ معادلة أنّ الجبهة في لبنان تنتهي تلقائيًا بنهاية الحرب في غزة، لم تعد قائمة اليوم، على الأقلّ بالصورة "الأوتوماتيكية".
استنادًا إلى ما تقدّم، يعتقد العارفون أنّ غياب السنوار لن يكون له تأثير حقيقي وملموس على الجبهة اللبنانية، التي تعرّضت لاختبارها الأقسى بعد اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، وبالتالي فإنّ لا شيء سيتغيّر اليوم، بل على العكس من ذلك، فإنّ الأيام المقبلة قد تحمل المزيد من التصعيد، في سياق ما سمّاه الحزب "المواجهة التصاعدية"، التي يسعى من خلالها لردع العدوّ، وصولاً إلى إبرام تسوية ما.
في النتيجة، يمكن القول إنّ مرحلة "ما بعد السنوار" قد تكون مفتوحة على كلّ الاحتمالات، فهي قد تكون فعلاً "بداية النهاية" للحرب الأطول في الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها قد تكون أيضًا "بداية" لفصل آخر من هذه الحرب. وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ الوساطات المتوقفة، ستنشط من جديد في الأيام المقبلة، على خط غزة، ولكن أيضًا لبنان، في سياق مسعى للوصول إلى "حلّ شامل" يُخرِج المنطقة بأسرها من "كابوس" لم يعد أحد قادرًا على تحمّله!.