بعد توقّفٍ نسبيّ غير مفهوم استمرّ لأيام، حُكي فيها الكثير عن "ضمانات" قدّمتها الولايات المتحدة لمسؤولين لبنانيين بتحييد العاصمة بيروت عن الضربات الإسرائيلية، عاد الاستهداف الممنهج والمركّز للضاحية الجنوبية بقوة خلال الأيام الأخيرة، وبوتيرة عالية لا تخفّف من وطأتها "إنذارات الإخلاء" التي بات إصدارها بمثابة "حرب نفسية" من نوع آخر، ولا سيما أنّها بغالبيتها تبقى محصورة بالمناطق المخلاة أصلاً، بعكس التي يتمّ قصفها بلا إنذار.
لكنّ الضربات المكثّفة للضاحية الجنوبية تزامنت مع "حدثين" يمكن أن يكونا مفصليَّين في الصراع القائم، فهي جاءت بعيد الاستهداف الدقيق وغير المسبوق لمقرّ إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قيساريا، والذي بدت بصمات "حزب الله" واضحة خلفه، ولو لم يعلن مسؤوليته عنه بشكل رسمي في بياناته العسكرية الكثيرة، علمًا أنّ الحزب استبقه ليل الجمعة بإعلان دخوله مرحلة جديدة وتصاعدية، قال إنّ مجريات الأيام المقبلة ستتحدث عنها.
وبموازاة ذلك، فإنّ الضربات الإسرائيلية المكثّفة للضاحية الجنوبية، والتي وصلت إلى أوجها ليل الأحد، مع استهداف مختلف فروع جمعية "القرض الحسن" المنتشرة بكثافة في الضاحية، فضلاً عن المناطق الأخرى، جاءت عشيّة وصول المبعوث الدولي آموس هوكستين إلى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث كان يفترض أن يبحث آفاق المواجهة القائمة، ما جعل كثيرين يضعون الزيارة في خانة "المفاوضات تحت النار"، لتحصيل بعض المكاسب السياسية.
يقول البعض إنّ الأمرين "متلازمان" بصورة أو بأخرى، فاستهداف مقرّ إقامة نتنياهو أريد منه إيصال رسالة "ردعية" واضحة، بأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه "تحت مرمى" صواريخ المقاومة، واستهداف الضاحية الجنوبية بهذا الشكل من جديد أريد منه القول إنّ الإسرائيلي يمكنه التنصّل من كل الضمانات، ولا مانع لديه في "اختراع" الأهداف العسكرية إن اضطر، فهل يندرج كلّ ذلك في خانة جمع أوراق المفاوضات، وهل هي "بداية النهاية" للحرب؟!.
بالنسبة إلى استهداف مقرّ إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي، يقول العارفون إنّ الرسالة منه كانت واضحة، برمزيّتها الاستثنائية، لجهة أنّ المقاومة قادرة على الوصول إلى الهدف "الأهمّ" ربما في إسرائيل، أي منزل نتنياهو، وبالتالي أنّها تمتلك القدرات الاستخباراتية والعسكرية لذلك، وقد أثبتت قدرتها على تخطّي المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، التي يُقال إنّ تل أبيب استنفرت لمعالجة الشوائب التي تشكو منها، خصوصًا بعد ضربات عدّة لم تفلح في منعها.
بهذا المعنى، فإنّ الضربة "النوعية" الأخيرة حملت بين طيّاتها، رسائل "ردعية" بالجملة، ولو بقيت من دون تبنّ رسميّ من جانب "حزب الله"، وكأنّ الحزب يقول إنّ عدم ردّه على الاغتيالات في صفوفه لم يكن ناجمًا بالضرورة عن "عجز أو ضعف"، بدليل أنّه يستطيع الوصول إلى نتنياهو نفسه، علمًا أنّ البعض يؤكد أنّ الهدف من العملية كان "إيصال الرسالة" لا "الاغتيال"، وأنّ عدم وجود نتنياهو في المكان المُستهدَف لم يكن مفاجئًا لأصحاب القرار.
ويرى العارفون أنّ الرسالة "وصلت"، بدليل الحديث الإسرائيلي الصريح عن فشل أمني، وعن ثغرات دفاعية، بل الاستنفار من أجل معالجة الأمر قبل فوات الأوان، خصوصًا بعد العملية الأخيرة، وقبل ضربة بنيامينا الدموية، ولا سيما أنّ "حزب الله" يهدّد بالمزيد من التصعيد في المرحلة المقبلة، وهو ما يراهن فيه على قدرة مسيّراته على تجاوز المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، من دون أن تلتقطها الرادارات، وبلا أن تدوّي صفارات الإنذار.
لكن، على أهمية الرسالة "الردعية" التي يحملها استهداف مقرّ إقامة نتنياهو، فإنّ الطبيعي كان أن تردّ إسرائيل بنوع من "الثأر"، لا "الاستسلام"، وهي التي لا تزال في موقع قوة بعد الضربات النوعية التي نفذتها منذ بداية الحرب، وهو ما فعلته بالعودة لضرب الضاحية الذي يقول العارفون إنه جاء ليضرب أكثر من عصفور بحجر، وكأنّ إسرائيل تقول للبنانيين عبر الوسيط الأميركي: "إما تقبلون بشروطي للمفاوضات، وإلا فلتتحمّلوا المزيد، وبلا أيّ ضمانات".
وفي وقتٍ كشفت تقارير عن بعض هذه الشروط، التي لا تبدو قابلة للتطبيق في الوقت الراهن، خصوصًا أنّها تبدو أكثر تشدّدًا ممّا كان مطروحًا من قبل، وتحديدًا في زيارات هوكستين السابقة، يقول العارفون إنّ الرسائل الإسرائيلية المضادة لرسائل "حزب الله"، مفادها أنّ "المرحلة الجديدة" التي يهدّد فيها الحزب ستُقابَل أيضًا بالمزيد من التصعيد على المستوى الإسرائيلي، وما استهداف الضاحية من جديد بهذه الكثافة النارية، سوى "أول الغيث".
ولعلّ الرسالة التي تتفرّع عن هذه الرسالة تقوم على أنّ "نوع" الهدف ليس مهمًا، بدليل أنّ إسرائيل لا تجد مانعًا في "اختراع" الأهداف متى تطلب الأمر، سواء في الضاحية الجنوبية لبيروت أو خارجها، وقد يكون ما حصل تحديدًا في "ليلة استهداف القرض الحسن" دليلاً واضحًا على ذلك، خصوصًا مع البلبلة التي تعمّدت إسرائيل التسبّب بها، وحركة النزوح التي أعقبت التهديد، وهو ما قد يكون "هدفًا" بحدّ ذاته بالنسبة للإسرائيلي.
ويضاف إلى ذلك رسالة يصر الجانب الإسرائيلي على إرسالها، بأنّ أيّ منطقة لبنانية معرّضة للاستهداف، وهو ما حصل في الاستهداف في جونية قبل أيام، ومجزرة أيطو الأسبوع الماضي، وغيرها، علمًا أنّ كل هذه الاستهدافات تخبّئ بين طيّاتها هدفًا "خبيثًا" آخر، لا يغيب عن أجندة الأهداف الإسرائيلية، ليس فقط من أجل تحريض اللبنانيين في مختلف المناطق ضدّ "حزب الله"، ولكن أيضًا من أجل تأليبهم على بعضهم البعض، وصولاً إلى الفتنة الطائفية.
هكذا، تبدو الصورة على غموضها، قبل وبعد استهداف مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقبل وبعد استهداف الضاحية، وقبل وبعد زيارة هوكستين، إذ يبدو أنّ الأمور لم تنضج بعد، فكلّ هذه الاستحقاقات، وإن بدت "مفصلية"، تبقى مفتوحة على أكثر من سيناريو، حيث يمكن أن تفاقم الأمور وتزيد من تعقديها أكثر، كما يمكن أن تعجّل في الحلّ، الذي بدأ العديد من قادة الغرب ينشطون بشكل أو بآخر، من أجل الوصول إليه في أقرب وقت ممكن...