فتح الاميركيون الباب لتفاوض يُنهي الحرب، بعدما كانت الأبواب موصدة أمام أيّ كلام دبلوماسي مُنتج في الاسابيع الماضية. وهي بحد ذاتها خطوة مهمة، تعمّد المفاوض اللبناني رئيس مجلس النواب نبيه برّي إظهار إيجابيتها.
لا يعني التفاوض نهاية فورية للحرب، لكنه يرسم مسار النهاية المرتقبة، من دون تحديد مهل زمنية. وتوحي المؤشرات الميدانية والسياسية والدبلوماسية بكل مقاييسها واتجاهاتها ان الحرب لن تطول كثيراً، لأسباب عدة، علماً ان التصعيد العسكري سيكون شديداً بالتزامن مع المفاوضات المفتوحة، قبل الوصول إلى نتائج، على قاعدة ان الشدّة الميدانية تدفع نحو التنازلات في مشروع الحلول الدبلوماسية:
اولاً، ترغب الولايات المتحدة الاميركية بوقف الحرب قبل موعد انتخاباتها الرئاسية في الخامس من الشهر المقبل. لكن رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو كان يضع شروطاً تعيق وقف الحرب قبل معرفة نتائج تلك الانتخابات. وتأتي الاتصالات بينه وبين الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب تصبّ في سياق دخول نتنياهو على خط السباق الانتخابي الاميركي. لكن الحزب الديمقراطي يضغط على الحكومة الإسرائيلية ايضاً، بلطف، بإعتبار ان تل ابيب لاعب في تلك الانتخابات، ولا يمكنهم التعامل معها خارج اطار مصالحها القومية.
ثانياً، تحاول واشنطن استيلاد واقع حدودي جنوب لبنان، يقوم على اساس معادلة: لا مقاومة ضد اسرائيل بعد اليوم. وهي تتخذ القرار الدولي ١٧٠١ منطلقاً، من دون ان تتحدث عن تعديل او اضافات، لأن اي تغيير في جوهر القرار الدولي يحتاج إلى موافقة غير مُتاحة في مجلس الامن الدولي، في ظل وجود فيتوات صينية وروسية.
واذا كان الاسرائيليون سعوا إلى فرض رقابة اممية على كامل الحدود اللبنانية، بما فيها مع سوريا، فإن واشنطن تعي صعوبة اقرار هذا الطرح لإعتبارات امنية في لبنان، وروسيّة في سوريا. فجرت محاولة تشريع الرقابة الجوية، او عبر شراكة رقابية بين لبنان وقوات اممية، وهي بند مطروح في التفاوض حالياً.
ثالثاً، اعتقد الاسرائيليون انه لمجرد استهداف قيادات "حزب الله" و مواقعه الاستراتيجية العسكرية، سينهار الحزب ويتقدم الجيش الاسرائيلي إلى حدود نهر الأولي بسهولة، وليس فقط الليطاني، وبالتالي تستطيع تل ابيب فرض كل الشروط الاسرائيلية، لكن تبيّن بعد قتال عشرين يوماً ان الأمر صعب، انطلاقاً من ان مقاتلي الحزب يخوضون معركة وجودية فرضت استبسالاً نوعياً في مواجهة اسرائيل التي تتكبّد خسائر في مسار استنزافي سيقودها تدريجياً إلى تراجع طموحاتها، كلما طالت الحرب.
رابعاً، ايقنت تل أبيب ان مسار الحرب يقف عند حدود مصالح الولايات المتحدة، ومتى تجاوزتها إسرائيل، وجب وقفها بالمفهوم الاميركي. فحاول نتنياهو تقديم تفسيرات مفادها ان الاسرائيليين يحققون اهداف أميركية ايضاً: اغتيال قيادات الحزب المطلوبين أميركياً، وضرب البنية التحتية المالية للحزب المصنفة على لوائح العقوبات الاميركية، واعادة خلط المشهد السياسي اللبناني بما يتلاءم مع حلفاء واشنطن. لكن بنك الاهداف انتهى عملياً. كما ان الاميركيين الذين راقبوا المواجهات لمنع تفلّتها، هم طلبوا من اسرائيل إنذار المواطنين اللبنانيين قبل تنفيذ ضربات اسرائيلية، ورصدوا ان تل ابيب تتجاوز الخطوط الموضوعة، بإستهدافات اوسع، وقتل مدنيين لبنانيين من دون إنذارات مسبقة، بشكل بدأ ينعكس سلبا على قرار وصورة الولايات المتحدة.
خامساً، يهم الولايات المتحدة عدم الذهاب إلى حرب اقليمية، لإهتمام الاميركيين بساحات دولية اهم: أوكرانيا - روسيا، الصين - تايوان. فيأتي توسيع التوتر الاسرائيلي- الإيراني ليقود الاقليم إلى فوضى تُغرق مصالح الاميركيين في مستنقع خطير، ويترجم نفسه في أسواق المال والنفط والاقتصاد العالمي، في وقت تعطي كل من الادارة الاميركية الديمقراطية الحالية او ترامب نفسه الاولوية لمواجهة المشروع الصيني.
كل ذلك، يجعل وقف الحرب امراً ضرورياً بالنسبة إلى الاميركيين، لكن التوقيت خاضع لحسابات ولمعادلات ذكرناها، لا تزال ضمن الاطر المضبوطة أميركياً لغاية اليوم.