قبل أن يصل المبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى بيروت، ومن بعده وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة، اختارت إسرائيل أن "تترجم" انفتاحها على الحلّ الدبلوماسيّ الذي ينشط الأميركيون في سبيل التوصّل إليه، قبل موعد الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل، عبر توسيع العدوان على لبنان بكلّ بساطة، مستعيدة "زخم" الضربات على الضاحية الجنوبية لبيروت، وموسّعة "بنك الأهداف" المحدّد فيها، بما يوحي وكأنّها "تخترعها" بصورة أو بأخرى.
وبالتوازي مع زيارتي هوكستين وبلينكن، ذهبت إسرائيل بعيدًا في مخطّطاتها، فاختارت أن ترمي بورقة لطالما اعتمدتها في قطاع غزة، وهي ورقة "استهداف المستشفيات" التي أصبحت نهجًا مألوفًا، بعيدًا عن الضجة التي أحاطت بأولى محطاتها في مستشفى المعمداني، متجاهلة حقيقة أنّ كلّ القوانين لا تشرّع استهداف المستشفيات والمرافق الصحية، تحت أيّ ظرف من الظروف، وبأيّ ذريعة، وحتى لو اختبأ فيها أهمّ المطلوبين المتوارين عن الأنظار.
هكذا، لم تكد إسرائيل تطلق "المزاعم" حول مستشفى الساحل الكامن في الضاحية الجنوبية، بشأن وجود "مخبأ لحزب الله" في أسفله، يخزّن فيه مئات الملايين من الدولارات بالعملات الورقية والذهب، ما اضطر إدارة المستشفى إلى إخلائه، حتى قصفت من دون إنذار مسبق محيط مستشفى رفيق الحريري الحكومي في منطقة الجناح، متسبّبة بمجزرة مروّعة، ولا سيما أنّ المنطقة كانت تُعَدّ آمنة إلى حدّ بعيد.
يطرح كلّ ذلك الكثير من علامات الاستفهام عن طبيعة وفحوى الحراك الأميركي المتجدّد، من أجل الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فهل "أخفق" هذا الحراك، خصوصًا بعدما أقفلت زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين، السادسة أو السابعة إلى لبنان بحسب قوله، إلى "لا شيء"، أم أنّ إسرائيل تعمّدت توجيه الرسائل "النارية" بالتزامن مع هذا الحراك، في محاولة لاستثمارها على طاولة المفاوضات، إن التأمت في وقت قريب.
الأكيد، بحسب ما يقول العارفون، أنّ تطورات الأيام الأخيرة لا توحي فعليًا بأنّ هناك مفاوضات سياسية جارية خلف الكواليس، وهو ما قد يكون مردّه أنّ الطروحات الأميركية لم تنضج بعد، أو ربما لم تتبلور بما فيه الكفاية، فضلاً عن أنّ هناك صراعًا قائمًا بين إسرائيل و"حزب الله" على طبيعة المفاوضات، التي يريدها رئيس الوزراء الإسرئيلي بنيامين نتنياهو "تحت النار"، فيما يرفض الثاني الخوض فيها من الأساس "قبل وقف إطلاق النار".
استنادًا إلى ما تقدّم، يبدو واضحًا أنّ التصعيد ظلّ سيّد الموقف في الأيام الأخيرة، وكأنّ إسرائيل أرادت القول إنّ عدم خضوع "حزب الله" وقبلوها بشروطها للحلّ، سيؤدي إلى توسيع العدوان، وبالتالي تجاوز المزيد ممّا يُعتقَد أنّها "خطوط حمر"، علمًا أنّ تجاوز إسرائيل لما قيل إنّها "ضمانات أميركية" بتحييد بيروت وضاحيتها من الضربات، تزامنًا مع زيارتي هوكستين وبلينكن تحديدًا، لا يمكن أن يكون "محض صدفة" في السياق العام.
ويقول العارفون إنّ إشهار ورقة "المستشفيات" تحديدًا يحمل خطورة مضاعَفة، وسط مخاوف من أن تكون إسرائيل في وارد تعميم النموذج الذي اعتمدته في غزة لبنانيًا، حيث يذكر الجميع الضجّة التي أحاطت بمجزرة المستشفى المعمداني، والتي دفعت إسرائيل حينها للتنصّل من مسؤوليتها عنها، واتهام حركة حماس بالوقوف خلفها، قبل أن يصبح ضرب المستشفيات بعد ذلك أمرًا طبيعيًا يمرّ مرور الكرام، ومن دون الحاجة إلى تبرير حتى.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل اكتفت بـ"الرسائل" على هذا الصعيد، فالمزاعم حول مستشفى الساحل مثلاً اقترنت بالحديث عن "عدم وجود نيّة" بضربها في الوقت الحاضر، فيما ضربة الجناح أتت في محيط المستشفى وليس داخلها، فإنّ هذه الرسائل تبدو في غاية الخطوة بحسب العارفين، ما يفسّر الاستنفار الذي سُجّل في القطاع الصحي والاستشفائي، وسط مطالبات رسمية للمجتمع الدولي بالتدخل لحماية المرافق الصحية، التي تعمل وفق الأصول.
وفقًا للعارفين، فإنّ كلّ جو التصعيد هذا يوحي أنّ الحراك الأميركي القائم، وإن كان "جدّيًا"، لا يزال يصطدم بالكثير من العقد وربما الشروط والشروط المضادة، وبالتالي فهو لم ينضج بعد، وهو ما تجلّى في زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين، الذي خلص في نهاية إلى أنّ "مجرد القول" بالالتزام بالقرار الدولي 1701 لم يعد كافيًا، وسط حديث عن قرار "1701 زائد" تريده إسرائيل، مقابل "1701 ناقص" يقبل به "حزب الله".
ثمّة من يقول في هذا السياق، إنّ الأمور لا تزال مقفلة، فإسرائيل تتصرّف على أنّها "انتصرت" في الحرب، بعدما استطاعت "القضاء" على "حزب الله"، بصورة أو بأخرى، خصوصًا بعد نجاحها في اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، ومعظم القادة الآخرين، ولا سيما من تصفهم بـ"خليفة نصر الله وخليفة خليفته"، في إشارة إلى رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، إضافة إلى الشيخ نبيل قاووق على الأرجح.
ومن هذا المنطلق، تريد إسرائيل أن "تفرض شروطها" على الحزب في المفاوضات، وثمّة من يقول بهذا المعنى إنّها لا تودّ العودة إلى القرار 1701، الذي أنهى حرب تموز 2006، بل تريد ما يتجاوز هذا القرار بصورة أو بأخرى، وهي لذلك توجّه الرسائل "النارية" التي تتوخى من خلالها القول إنها مستعدّة للمضيّ في حربها تحت النهاية مهما تكُن العواقب، وقد أثبتت في غزة أنّها ما عادت تحصر نفسها بالحروب الخاطفة التي عرفت بها تاريخيًا.
في المقابل، فإنّ "حزب الله" المتمسّك بتفويضه الكامل لرئيس مجلس النواب نبيه بري في المفاوضات، كما فعل في حرب تموز، يرفض أن يقدّم أيّ "هدايا مجانية" لإسرائيل، وهو يرفض تصويره "مهزومًا" رغم الضربات القاسية التي تعرّض لها، والأكيد بالنسبة إليه، أنه لن يقبل أيّ شروط مذلّة تريدها إسرائيل، ويمكن أن تؤدي في مكان ما إلى انتهاك السيادة اللبنانية، أو التفريط بمربع واحد من أرض الوطن.
في النتيجة، لا يبدو أنّ الحرب تقترب من "خواتيمها"، رغم الإصرار الأميركي على إحداث "خرق ما" قبل موعد الانتخابات، خصوصًا بعد "الإخفاق" في إنهاء حرب غزة على امتداد عام كامل من المفاوضات. إلا أنّ هذا الإصرار يصطدم بتعنّت إسرائيلي لا يتجاوز الخطوط الحمراء لبنانيًا فحسب، ولكنه أيضًا يطيح في طريقه بكل الوعود والضمانات التي تقدّمها إدارة الرئيس جو بايدن، من دون أيّ اعتبار لها!.