في خطوة متوقعة، أعلنت مجموعة العمل المالي (FATF) إدراج لبنان رسميًا على اللائحة الرمادية. هذا القرار جاء بعد ضغوط دولية مكثفة، خاصة في ظل الحرب الأخيرة بين لبنان وإسرائيل، والتي رافقتها محاولات حثيثة من جانب إسرائيل وعواصم غربية لدفع المجموعة نحو هذا القرار، بدعوى ضعف الإجراءات التي تتبعها الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. القرار، على الرغم من تداعياته السياسية والاقتصادية، يبقى مختلفًا عما قد ينتج عن القائمة السوداء، حيث يحافظ مصرف لبنان والمصارف اللبنانية على التزامها بالمعايير الدولية للشفافية.
القائمة الرمادية وأهميتها
تُدرج الدول على "القائمة الرمادية" لمجموعة العمل المالي (FATF) إذا اعتُبر أن لديها قصورًا في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما يعرضها لمزيد من الرقابة الدولية ويضعها تحت المجهر. تضم القائمة دولًا تعاني من ثغرات في القوانين والتدابير اللازمة لمكافحة هذه الجرائم المالية، لكنها تعمل على تحسين هذه الأطر لتجنب العقوبات الأشد. وحتى يونيو حزيران 2024، كانت هناك 21 دولة مدرجة في «القائمة الرمادية»، وهي بلغاريا وبوركينا فاسو والكاميرون وكرواتيا والكونغو وهايتي وكينيا ومالي وموناكو وموزمبيق وناميبيا ونيجيريا والفلبين والسنغال وجنوب أفريقيا وجنوب السودان وسوريا وتنزانيا وفنزويلا وفيتنام واليمن.
من جهة أخرى، فإن "القائمة السوداء" تشمل دولًا تواجه أوجه قصور كبيرة في مكافحة الجرائم المالية، وهو ما يؤدي إلى فرض عقوبات مالية شاملة عليها، وهي تضم كوريا الشمالية وإيران.
مبررات القرار
رغم أن مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني ملتزمان بالمعايير الدولية للشفافية، فإن بعض القضايا الداخلية ساهمت في هذا القرار. قد تكون التحديات السياسية، بما في ذلك الفراغ الرئاسي وعدم انتظام العمل في بعض المؤسسات، قد لعبت دورًا مهمًا في توجيه الأنظار الدولية إلى لبنان. هذا، إلى جانب الضغوطات التي تصاعدت مع الحرب الدائرة، دفع المجتمع الدولي إلى المطالبة بإصلاحات ملموسة وشاملة من الجانب اللبناني.
رغم هذه الضغوط، تمكن حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، من تثبيت علاقات جيدة مع المصارف المراسلة الرئيسية، خاصة ستة بنوك دولية كبيرة ستستمر في التعامل مع لبنان نتيجة لالتزام القطاع المصرفي بقواعد الشفافية الدولية. ومع ذلك، يتطلب الوضع الحالي متابعة حثيثة من الحكومة اللبنانية لتفادي انتقال البلاد إلى القائمة السوداء، وهو ما قد يؤدي إلى قطع العلاقات المصرفية الدولية.
تداعيات القرار
على الرغم من إدراج لبنان في القائمة الرمادية، إلا أن هذا القرار لا يهدد بشكل مباشر التحويلات المالية من وإلى البلاد، كما لا يؤثر بشكل كبير على العلاقات المالية مع المؤسسات الدولية. هذا الأمر ظهر جليًا في مثال الإمارات العربية المتحدة، التي تمكنت خلال الأشهر الماضية من الخروج من القائمة الرمادية بعد تحقيق إصلاحات كبيرة. في المقابل، لا تزال دول كتركيا ودول أخرى مثل موناكو، التي أدرجت مؤخرًا، على القائمة الرمادية، مما يثبت أن بالإمكان تجاوز هذا التصنيف عبر اتخاذ تدابير جادة.
ورغم الجهود التي يبذلها مصرف لبنان للالتزام بالمعايير الدولية، إلا أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق السلطة السياسية اللبنانية، التي لم تُقدم على أي إصلاحات أو تشريعات جدية منذ عامين لتصحيح الأوضاع الاقتصادية ومكافحة الجرائم المالية. إن المسؤوليات المطلوبة من لبنان تتجاوز القطاع المصرفي وتطال الحكومة التي يجب عليها تحسين التشريعات وإصدار قرارات شاملة لمصادرة العائدات الجرمية وتطبيق القوانين الرادعة.
التأثير على العلاقات المصرفية الدولية؟
إدراج لبنان في "القائمة الرمادية" يعني مزيدًا من التدقيق في العمليات المصرفية وتعاملات المصارف مع الخارج. ومع أن المصارف المراسلة قد رفعت فعليًا مستوى الحيطة منذ انهيار النظام المالي في لبنان، إلا أن المخاوف من التعاملات النقدية تزداد. في حال التصنيف ضمن القائمة السوداء، فإن ذلك قد يعنى توقفًا شبه تام للعلاقات المصرفية مع العالم الخارجي، ما يهدد حركة الواردات والتجارة الخارجية بشكل كبير.
إلا أن الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تمكن من الحصول على تطمينات من بعض المصارف المراسلة، كـ"جي بي مورغان"، التي أكدت استمرار تعاملها مع لبنان عبر فروع في لندن كبديل عن الولايات المتحدة. هذه التطمينات تُعد إنجازًا للمصرف المركزي اللبناني، وتعكس في الوقت ذاته ارتياح مجموعة العمل المالي لجهود المصرف المركزي في تطبيق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، على الرغم من قصور السلطات اللبنانية عن إصدار التشريعات اللازمة.
تفاصيل الثغرات
تضمنت محادثات مجموعة العمل المالي عدة تحفظات على أداء الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تشمل هذه التحفظات ثلاث نقاط رئيسية:
1. الملاحقات القضائية: تفتقر الملاحقات القضائية في لبنان إلى الشفافية ولا تتماشى مع التهديدات المحدقة بالاقتصاد، خاصة فيما يتعلق بالتهرب الضريبي وجرائم الاتجار بالمخدرات والتهريب.
2. الفساد في الإدارة العليا: لم تُصدر الحكومة اللبنانية أية سياسات أو تدابير فعالة لملاحقة الأموال الناتجة عن الفساد، خاصة تلك التي تُنقل إلى ولايات قضائية أخرى.
3. التهديدات المتعلقة بالجماعات المسلحة: لم تشهد الساحة القضائية اللبنانية أي تحقيقات حول التهديدات المرتبطة بأكبر الجماعات المسلحة المنظمة، ما يعزز الشكوك الدولية حول مدى التزام لبنان بتطبيق المعايير الدولية.
مساعي حاكم مصرف لبنان
خلال العام الأخير، حاول الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تجنيب لبنان الدخول إلى "القائمة الرمادية"، إلا أن الضغوط الدولية كانت أكبر من قدرته على المناورة. ورغم ذلك، نجح في التوصل إلى اتفاقات مع المصارف الدولية لضمان استمرارها في التعامل مع لبنان، ما يخفف من الآثار الاقتصادية السلبية لهذا التصنيف.
كما أن تعميم المصرف المركزي رقم 165، الذي سمح بفتح حسابات بالدولار الأميركي والنقد المحلي، ساهم في تخفيف تداعيات الوضع المالي عبر تشجيع استخدام وسائل الدفع المصرفية بشكل أكبر. غير أن هذا التعميم وحده لا يكفي، إذ لا يزال يحتاج إلى دعم قانوني من السلطة التشريعية، الأمر الذي يعيق تنفيذ الإصلاحات اللازمة.
نظرة ومسؤولية
إن الخروج من القائمة الرمادية يتطلب من لبنان تنفيذ سلسلة من الإصلاحات والتشريعات التي تعزز الشفافية المالية، وتضع حدًا للأنشطة غير القانونية. كما ينبغي على الحكومة تحسين الأطر القانونية لردع غسل الأموال والتهرب الضريبي، وضمان تعاون السلطات القضائية في ملاحقة العائدات الإجرامية.
ورغم أن قرار إدراج لبنان على القائمة الرمادية لا يحمل تأثيرًا فوريًا، إلا أنه يُعتبر بمثابة تحذير يفرض على الحكومة اللبنانية السعي نحو الإصلاح. في حال عدم اتخاذ أي خطوات فعلية، فقد يتصاعد الضغط الدولي، ما قد يؤدي في النهاية إلى التصنيف ضمن القائمة السوداء، وهو السيناريو الذي سيزيد من حدة الأزمة الاقتصادية ويهدد بنسف العلاقات المالية بين لبنان وبقية دول العالم.
يمثل قرار مجموعة العمل المالي بإدراج لبنان على القائمة الرمادية نقطة حرجة في مسار الاقتصاد اللبناني، لكنه في الوقت ذاته يتيح فرصة للحكومة اللبنانية لاتخاذ إجراءات حازمة وجدية لإنقاذ الاقتصاد وفتح صفحة جديدة في علاقتها مع المجتمع الدولي. الوقت ما زال في صالح لبنان، إلا أن القرارات السياسية تبقى العامل الحاسم، خاصة في ظل الأزمات المتفاقمة وضغوط الإصلاحات الدولية المطلوبة.