بعد جدل واسع، تخلّله الكثير من الأخذ والردّ، نعى "حزب الله" رئيس مجلسه التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، الذي "التحق" بالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بعدما كان المرشح الأبرز، وربما المجهَّز لخلافته، وذلك بعد ساعات من إعلان الجيش الإسرائيلي اغتياله رسميًا، عقب العثور على جثّته، بعد ثلاثة أسابيع على الغارة التي استهدفته، في تأخير نتج أيضًا عن التشويش الإسرائيلي على عمليات البحث، منعًا لإنقاذه لو كان مصابًا.
وفي حين وضع الكشف عن مصير السيد صفي الدين حدًا للتكهنات التي راجت في الأيام الأخيرة، بين من اعتبر أنّ الرجل قضى فعلاً إثر الغارة الإسرائيلية، خصوصًا أن التسريبات عن فقدان الاتصال به شكّلت تمهيدًا لمثل هذا الإعلان، ومن ألمح إلى أنه لا يزال حيًا يُرزَق، كما فعل الوزير السابق وئام وهاب، الذي تحدّث عن "لمساته الواضحة" في عمليات المقاومة الأخيرة، فإنّه طرح في الوقت نفسه ملف قيادة "حزب الله" على بساط البحث.
ففي وقت يتريّث الحزب في بلورة أيّ موقف، مؤكدًا أنّ تسمية أمين عام جديد تخضع للأصول التنظيمية، وقد تستغرق بعض الوقت، بالنظر إلى ظروف الحرب وصعوبة الاجتماع، تبدو الأمور أكثر وضوحًا بالنسبة لإسرائيل، التي تقول إنها "قضت" على القيادة العليا لـ"حزب الله" بالكامل، بعد اغتيالها لأمينه العام، و"خليفته" في إشارة إلى السيد صفي الدين، و"خليفة خليفته" في ما فهمها البعض إشارة إلى الشيخ نبيل قاووق الذي اغتيل بدوره سابقًا.
إزاء ذلك، يصبح التساؤل أكثر من "مشروع" حول ما إذا كان "الحزب" يواجه مأزقًا حقيقيًا على مستوى اختيار أمين عام جديد يتصدّى للقيادة في هذه المرحلة التي يصحّ وصفها بـ"المفصلية" في تاريخ "حزب الله" ومسيرته، فهل يُعلَّق الاستحقاق إلى حين، ويحلّ الشغور على رأس الحزب، بما يتناغم مع الفراغ الرئاسي في البلاد، وهل يمتلك الحزب أساسًا خيارات فعلية وجديرة، قادرة على استلام زمام الأمور في الوقت الحالي؟!.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ اختيار أمين عام جديد لـ"حزب الله" خلفًا للسيد حسن نصر الله مؤجَّل في الوقت الحاضر، وربما لما بعد وقف إطلاق النار، ونضوج معالم المرحلة المقبلة، وذلك للعديد من الأسباب والاعتبارات، قد يكون من بينها أنّ الحزب متمسّك بالأصول التنظيمية في إنجاز الاستحقاق في حين أنّ الظروف الحالية لا تتيح التئام مجلس الشورى، لكن من بينها أيضًا أن أيّ أمين عام يسمّى سيكون هدفًا مباشرًا وربما سريعًا للاغتيال.
خير دليل على ذلك أنّ نائب الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، الذي لم يكن أساسًا من المرشحين لتولي المنصب، وُضِع على "بنك الأهداف" الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، بعد إطلالاته التي أظهرته في موقع "القيادة" بشكل أو بآخر، ولو في مرحلة انتقالية، علمًا أنّ الشيخ قاسم كان "هدفًا سهلاً" قبل أسابيع قليلة فقط، خصوصًا حين أطلّ علنًا في تشييع عدد من القادة الذين تعرّضوا للاغتيال، من دون أن تستغلّ إسرائيل الفرصة لاقتناصه.
ويعكس ذلك وجود قرار إسرائيلي يعبّر عنه المسؤولون الإسرائيليون باستمرار، بما في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حول إنهاء البنية القيادية لـ"حزب الله" بالمُطلَق، ولكن أيضًا حول منعه من النهوض من جديد، خصوصًا أنّ من بين الأهداف المُعلَنة للحرب على الحزب، إنهاؤه عمليًا وتنظيميًا بالحدّ الأدنى، إضافة إلى إعادة النازحين إلى بيوتهم في المستوطنات الشمالية، ومنعه من تشكيل أيّ "خطر" عليهم في المستقبل المنظور أو البعيد.
ويضيف البعض لكلّ هذه الأسباب، سببًا جوهريًا عنوانه أنّ الحزب الذي قلّل من وقع الكثير من الاغتيالات "النوعية" التي ضربت قادة الصف الأول فيه، خصوصًا على المستوى العسكري، بالتأكيد أنّ "كل الشواغر ملئت بالبدائل"، وأنّ الأمور انتظمت من دون أن تتأثر العمليات، لا يبدو جاهزًا للأمر نفسه، إذ "لا بديل" حقيقيًا يستطيع أن يملأ الفراغ "الثقيل" الذي تركه السيد نصر الله، والذي بات "أثقل" مع غياب صفي الدين الذي كان محضَّرًا لهذه اللحظة.
يرفض المحسوبون على الحزب والدائرون في فلكه مثل هذه المقاربة، حيث يؤكدون أنّ الحزب الذي تجاوز الاختبار الأقسى والأصعب في مسيرته، لا باغتيال أمينه العام فحسب، بل السيد حسن نصر الله تحديدًا، مع كلّ الرمزية التي يمتلكها الأخير الذي يعتبره كثيرون "أكبر من الحزب"، لن يجد صعوبة في إيجاد من يستلم زمام الأمور، متى يحين الوقت المناسب لذلك، من دون الخضوع لما تريده إسرائيل، أو تقديم "الهدايا المجانية" لها.
من هنا، يقول هؤلاء إنّ "التكتيك الأفضل" في الوقت الحالي قد يكون في أسلوب "القيادة الجماعية" الذي بدأ الحزب عمليًا باعتماده منذ اغتيال السيد نصر الله، حيث لم بحصر أمر القيادة بشخص واحد، بل بمجموعة أشخاص يتولون زمام الأمور جماعيًا، على أن يستمرّ ذلك خلال مرحلة قد يجوز وصفها بـ"الانتقالية"، بانتظار عودة الأمور إلى طبيعتها التنظيمية بعد انتهاء الحرب، والظروف الاستثنائية التي نتجت عنها.
ويؤكد العارفون أنّ كلّ الخيارات تبقى مفتوحة بالنسبة لتسمية أمين عام جديد، سواء كان من الأسماء المتداولة على قلّتها، والتي لم يبقَ منها ربما سوى الشيخ قاسم، والسيد إبراهيم أمين السيد، أو من تلك غير المعروفة، علمًا أنّ هناك من لا يستبعد أن يعمد الحزب إلى بثّ "نفس جديد" عبر اختيار أمين عام جديد من جيل الشباب، تتوافر فيه المقوّمات المطلوبة من كاريزما وحضور، ليوجّه عبره رسالة مفادها أنّ "أبناء وأحفاد السيد نصر الله سيكملون المسيرة".
وإذا كانت هذه الفكرة تلقى رواجًا لدى الكثير من الأوساط القريبة من الحزب، باعتبار أنّ مرحلة ما بعد الحرب ستكون مختلفة على كلّ الصعد والمستويات، بمعزل عن نتائج هذه الحرب وتبعاتها على الحزب سياسيًا وعسكريًا، فإنّ الثابت وفق ما يقول العارفون أنّ الأمور تبقى مرهونة بأوقاتها، بمعنى أنّ هذا الملف متروكٌ لما بعد انتهاء الحرب وتبلور ظروف ما بعدها، عملاً بقاعدة "لكلّ حادث حديث".
يقول البعض إنّ السيد حسن نصر الله قد يكون "آخر أمين عام" للحزب في هيكليته الحالية، متناغمًا بذلك بشكل أو بآخر مع السردية الإسرائيلية التي تحاول الإيحاء بأنّ الحزب برمّته سيصبح "في خبر كان"، وربما مع رهانات بعض الداخل على مثل هذا الأمر. لكن، بمعزل عن مدى واقعية هذا القول، فإنّ الثابت أنّ هذه الحرب لن تكون تفصيلاً في مسيرة "حزب الله"، الذي يمكن القول إنّه ما بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها!.