لا يمكن التشكيك للحظة بأن رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو هو شخص غير عاقل وذهب الى حيث لم يذهب قبله اي مسؤول رسمي، يتحمل عبء اتخاذ قرارات تؤثر على حياة الآلاف من الناس في مختلف انحاء العالم، حتى قيل عنه انه مجنون ولا يسمع لاحد. اذا كان الخلاف حول انه مجنون، فيمكن التوصل الى تسوية مفادها انه بالفعل ليس طبيعياً، والخطوات التي اتخذها لانقاذ نفسه ومسيرته السياسية والحزبية، لم تمتّ الى المنطق بصلة، لا بل خلقت سابقة في تاريخ التعاطي السياسي والدبلوماسي، والتلذّذ بارتكاب المجازر من جهة اخرى.
اما الخلاف حول ما اذا كان يسمع لاحد ام لا، فحلّه بسيط ايضاً وعلى عكس كل ما قيل ويقال في هذا المجال، لانه تبيّن انه حين تُلوى ذراعه، يقنع ويخضع لما يطلب منه ان يفعل، ويقوم به من دون تردد او تفكير. ولعل ابرز ما يمكن الاشارة اليه في هذا الخصوص، مسألة الرسائل الصاروخية بين اسرائيل وايران، واذا اردنا فقط قراءة ما طالعتنا به الصحف الاسرائيليّة، فيتبيّن ان هذا التبادل تمّ في اقل قدر ممكن من الاستفزاز، وادّى السوط الاميركي غايته على جلد نتنياهو، فتألّم قبل ان يُضرب به، وسار كالتلميذ الصالح على الدرب المحدّدة سلفاً. حين تعلّق الامر بالمصالح الاميركيّة حول العالم، عاد نتنياهو الى صوابه وارتضى ان يؤيّد الدور المسنود اليه من دون ان يجادل، فكان ما كان ومرّت قضية تبادل الرسائل من دون تعقيدات او مخاوف من حرب اكثر شموليّة على مساحة جغرافيّة اكبر بكثير مما هي عليه اليوم. هذا ان دل على شيء، فعلى ان الولايات المتحدة الاميركيّة اظهرت انها قادرة على الامساك برسن نتنياهو حتى في الايام الاخيرة من ولاية الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن الموصوف بأنّه عجوز ومصاب بـ"الخرف" وبأنه حالياً اضعف رئيس اميركي من حيث النفوذ. اذاً يمكن لسياسة العصا والجزرة، ان تفعل فعلها بالنسبة الى نتنياهو، فما الذي يمنع تسوية الامور في المنطقة؟ من الواضح انّ هذه السياسة تنفع في مواضيع محدّدة، فيما لا تزال موضع اخذ ورد في مواضيع اخرى، واذا تسنّى لرئيس الوزراء الاسرائيلي المماطلة واللعب على الوقت في مسائل اخرى على غرار الحرب في غزّة ولبنان، فلا مانع لديه، خصوصاً وانه استشف ان الادارة الاميركية غير مهتمة بتسريع الخطى لوقف اطلاق النار ان في الاراضي الفلسطينية المحتلّة او في لبنان، فالنار ستتوقف عاجلاً ام آجلاً. هل تتعمد الولايات المتحدة اطالة امد الحرب؟ بالطبع لا، لانّ انهاءها ينعكس ايجاباً على الحملة الرئاسية للمرشحة الديمقراطيّة كامالا هاريس، ويعطيها زخماً للفوز بهذا الاستحقاق، ولكن يجب الاخذ في الاعتبار ان ما يصح من ضغوط على اسرائيل بالنسبة الى ايران، يختلف عن تلك التي تمارس بالنسبة الى غزّة ولبنان، وبالتالي يجد نتنياهو نفسه اكثر راحة في التعاطي مع هذه الحرب، والتخلص من القيود المرهقة التي تحمّلها لعدم الرد القاسي على ايران.
ايام قليلة تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية الاميركيّة، وعن انقشاع الضباب عن صورة ساكن البيت الابيض الجديد، الذي لن يتوانى عن ممارسة ضغوط جدّية في الفترة التي تلي تولّيه منصبه، من اجل اعادة الاستقرار الى المنطقة، وهذا يعني بطبيعة الحال، الضغط على الجميع بمن فيهم نتنياهو الذي سيفهم ان فترة السماح التي منحت له قد شارفت على نهايتها، ولا بد من السير بمنحى آخر ولو لم يعجبه، لان "جنونه" لم يعد يفيد.