خلافًا لكلّ التوقعات التي كثر التهويل على خطّها، على امتداد الأسابيع الأخيرة، بدا الهجوم الإسرائيلي على إيران ضعيفًا إلى حدّ بعيد، وربما "مضبوطًا" بقواعد اشتباك غير مفهومة، ولو تحدّث الإسرائيليون عن أهداف "محدّدة" تمّ ضربها بدقّة، كان واضحًا أنّ المواقع النفطية والحسّاسة لم تكن بينها، ولو قابلهم الإيرانيون أيضًا بالحديث عن "ردّ آتٍ حتمًا"، وفق منطق "التوقيت المناسب"، رغم ما اعتبروه "محدودية" الهجوم.
وإذا كان كثيرون اعتبروا ما حصل بمثابة "مسرحية" أو "تمثيلية"، عزّزتها التسريبات الغربية، وحتى الإسرائيلية، التي ألمحت إلى أنّ تل أبيب أبلغت طهران سلفًا بموعد الهجوم وطبيعته ونوعية أهدافه، مقابل "ضمانة" بعدم الردّ عليه، فإنّ "كلمة السرّ" خلف كلّ ذلك بدت أميركية بامتياز، إذ بدا أنّ الإدارة الأميركية لعبت دورًا أساسيًا في "ضبط" الصراع، بدءًا من تأخير الهجوم الإسرائيلي، وصولاً إلى تحديد "حجمه" بالشكل الذي حصل.
ولعلّ ما لفت الانتباه أنّ الهجوم الذي بدا من حيث شكله "محدودًا" بعد حجم التهويل الكبير الذي سبقه، استُتبِع بحركة دبلوماسية لافتة هي الأخرى، سواء على صعيد مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، التي تمّ إحياؤها في العاصمة القطرية الدوحة بعد جمود طويل، أو حتى على مستوى الوضع في لبنان، خصوصًا مع عودة المبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى المنطقة، ولو من بوابة تل أبيب هذه المرّة، استكمالاً لزيارته الأخيرة إلى بيروت.
ومع أنّ هذه الحركة الدبلوماسية لا تزال تدور "تحت النار" إن جاز التعبير، باعتبار أنّ المجازر الإسرائيلية لا تزال مستمرّة، من غزة إلى لبنان، في ظلّ قصف يوميّ يطال مختلف المناطق، بل يشمل مناطق جديدة لم يسبق أن استُهدِفت، كما حصل في حارة صيدا قبل يومين، إلا أنّها انعكست تفاؤلاً في العديد من الأوساط السياسية بإمكانية اقتراب الأمور من نهايتها، تزامنًا مع موعد الانتخابات الأميركية بعد أيام، فهل يجوز التفاؤل حقًا؟!.
في المبدأ، يمكن القول إنّ الهجوم الإسرائيلي على إيران، بالشكل الذي انطوى عليه، حمل الكثير من الرسائل، التي بدت في مكان ما "مناقضة" لكلّ الرسائل التي كانت تل أبيب تتعمّد إرسالها طيلة الأسابيع الأخيرة، فهو أوحى بتوافق "ضمني" بين كلّ الأطراف على إبقاء المعركة ضمن وتيرتها الحاليّة بالحدّ الأدنى، وبالتالي عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية أوسع وأشمل، كان يمكن لأيّ ضربة "غير محدودة" أن تجرّ الجميع إليها، ولو من باب "الحَرَج".
كثيرة هي المؤشّرات التي تؤكد على هذا المنحى، ومن بينها أنّ المعايير التي تنطبق في العادة على هجمات إيران، جاءت مطابقة هذه المرّة لمواصفات الهجوم الإسرائيلي، ومن بينها أنّه بدا أقرب إلى "رفع العتب" ليس إلا، حتى إنّ هناك من شبّهه بالهجمات "المضبوطة" التي كان "حزب الله" ينفذها ردًا على الاغتيالات الإسرائيلية لبعض قادته، يوم كان يريد الإبقاء على عنوان "الإسناد" حصرًا، من دون إعطاء الإسرائيلي ذريعة للعدوان والحرب.
وفي السياق نفسه، يمكن ملاحظة أنّ نوعية الأهداف التي شملها الهجوم الإسرائيلي، حتى لو صدقت السردية الإسرائيلية بشأنها، في ظلّ ما يُحكى عن "تعتيم وتكتّم" إيراني مستمرّ، لم تأتِ منسجمة مع التهديدات الإسرائيلية التي تمّ تضخيمها، لدرجة أنّ المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية رفعوا السقف إلى الحدّ الأقصى، حين جزموا أنّ كلّ الأهداف "مشروعة"، ملمّحين إلى أنّ الهجوم لن يكون غير مسبوق فحسب، بل "نقطة مفصلية" في تاريخ الصراع.
انطلاقًا من ذلك، يُفهَم "حجم" الهجوم الإسرائيلي على أنه جاء استجابة للضغوط التي كان واضحًا أنّ واشنطن مارستها منذ اليوم الأول للردّ الإيراني، وذلك على "جبهتين"، سواء مع الإسرائيليين من أجل "إقناعهم" بغياب المصلحة من الهجوم الواسع، أو مع الإيرانيين لضمان تمريرهم هجوم إسرائيل من دون ردّ، طالما أنّه لم يمسّ بالبرنامج النووي، وهو ما يبدو أنّه حصل في نهاية المطاف، بدليل التسريبات التي تحدّثت عن هجوم "منسَّق" بصورة أو بأخرى.
لكنّ هذا "الإنجاز الأميركي" الذي تحقّق، إن صحّ التعبير، يثير بدوره الكثير من علامات الاستفهام، خصوصًا بعد "إخفاق" إدارة الرئيس جو بايدن في تحقيق أيّ نجاح على امتداد أكثر من عام من الحرب الهمجية في غزة، والتي تمدّدت إلى لبنان، فهل يعني النجاح هذه المرّة أنّ إسرائيل لم تعد راغبة في توسيع الصراع، وتعتقد أنّ الوقت قد حان للذهاب إلى التسوية، أم أن لها أهدافًا أخرى من خلف هذه العملية، ستظهر في الأيام الفاصلة عن الانتخابات؟!.
يقول العارفون إنّ كل الاحتمالات والسيناريوهات تبقى واردة، إذ ثمّة من يعتقد أنّ إسرائيل باتت فعلاً أكثر "انفتاحًا" على خيار التسوية السياسية، بدليل فتحها "ثغرة" على خط المفاوضات في غزة مثلاً، بعد فترة طويلة من الجمود منذ ما قبل بدء العدوان على لبنان، علمًا أنّ الإسرائيليين باتوا أكثر جاهزية لإنهاء هذه الحرب منذ تحويلهم للقطاع إلى جبهة قتال "ثانوية"، وبشكل أكبر بعد قتلهم زعيم حركة حماس في غزة يحيى السنوار، ولو عن طريق الصدفة.
وفي لبنان، يبدو أنّ الإسرائيليين لا يمانعون الذهاب إلى "تسوية" تلاقي تطلّعاتهم وشروطهم بصورة أو بأخرى، وهو ما يفسّر عودة هوكستين إلى تل أبيب هذا الأسبوع، للخوض في التفاصيل، وذلك بعد اطمئنانهم إلى "إنهاء" البنية القيادية لـ"حزب الله"، ولو أنّ الأخير أثبت أنّه لا يزال قادرًا على مقارعتهم، بدليل كثافة العمليات العسكرية التي ينفذها بصورة يومية، ما يعني أنّه يحافظ على ترسانته الصاروخية خلافًا لكل المزاعم الإسرائيلية.
لكنّ كلّ ذلك لا يعني فعليًا أنّ الحرب أوشكت حقًا على نهايتها، فالتجربة أثبتت أنّ الرهان على "جدّية" الإسرائيليين لا يصحّ، بدليل عرقلتهم الدائمة لكلّ اتفاقات وقف إطلاق النار في غزة، حتى حين كانت تنطلق من عندهم، علمًا أنّ الانطباع السائد لدى كثيرين يبقى أنّ الخروج من دائرة المراوحة الحالية يبقى صعبًا أقلّه قبل إنجاز الانتخابات الأميركية، لأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يرفض تقديم أي "هدايا" للحزب الديمقراطي.
بهذا المعنى، قد تكون المرحلة الفاصلة عن موعد الانتخابات بعد أيام مفصليّة على مستوى الحرب في المنطقة، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ مجرّد إنجاز الاستحقاق لن يكون نهاية المطاف، باعتبار أنّ المحكّ الأساسي يبقى استلام الرئيس الأميركي الجديد مقاليد الحكم وهو ما لن يحصل قبل بداية العام المقبل، لتبقى كلّ السيناريوهات مشرّعة حتى أجلٍ غير مسمى، مع نافذة أمل مفتوحة بجدّية ربما للمرة الأولى منذ أكثر من عام!.