في الآونة الأخيرة، غدا مصطلح "الفتنة المتنقّلة" يتردّد على ألسنة الكثيرين، يتجاذبه مروّجون ذوو أجندات مختلفة وخلفيات متباينة. وفي خضم هذا التداول، اجتمعت العقول الناضجة، ولا سيّما القيادات الروحية، في قمّة روحية بصرح بكركي البطريركي، لتؤكد على الثوابت الوطنية وتحصين الساحة الداخلية من كل فتنة وكل انقسام.
منذ أواخر الستينات، بدأ يظهر رؤوس الفتنة، ولا تزال تلاحقنا بعناوين وأساليب متعددة، مما يشير إلى قصور سياسي وتاريخي يمنعنا من بلوغ مرحلة الرشد والنضج. بينما لم تتذوق شعوب عديدة طعم الفتنة، يبقى لبنان وبعض المجتمعات العربية مسرحًا للاشتعال المتكرر.
ليست لدي الخبرة الكافية في الشؤون العربية لتقييم عمق الفتنة في هذه المجتمعات، لكنني أستطيع أن أحدد بعض الأسباب العامة التي تساهم في خلق الفتنة. فهناك أبعاد دينية وطائفية وقبلية، إضافة إلى نظام الحكم. وفي لبنان، تتجلى الأسباب السياسية والحزبية بشكل واضح. لو بلغنا سن الرشد في وطننا، لما كنا نستخدم يومًا عبارات مثل "الفتنة"؛ فالوعي والتحضر هما ما يحمي المجتمعات المتقدمة من الانزلاق نحو الفتنة، بينما نبقى نحن غارقين في ظلام الجهل.
للنهوض من هذا المأزق الفتنوي، الذي يبشرنا به المستفيدون، لا بد من الاعتراف بالآخر كشريك في الوطن، وإنهاء مفهوم المذاهب السياسية. يجب أن نسأل أنفسنا: ماذا جنينا من الممارسات السياسية للمكونات المارونية أو السنية أو الشيعية؟ الكل خاسر، وأول من يدفع الثمن هو الوطن والمواطن.
نحن مدعوون إلى إرساء دساتير مدنية قائمة على المساواة والمواطنة.
لبنان في أزمة مصيرية لم يشهدها من قبل، حيث إن الفتنة لم تكن يومًا ناشئة من الداخل، بل إن الخارج هو من يخطط، والداخل هو من ينفذ. فلنعد إلى ربّنا، ولنتوجه إلى وطننا وأرضنا وجذورنا، إلى تاريخ الأوفياء والشرفاء. لنستعد ضميرنا، ولنبادر إلى الانتفاضة ضد لغة إلغاء الآخر، والتخوين، والترهيب، ومخططات الدول الكبرى.
لم يعد لبنان يحتمل المزيد من الحروب والصراعات الدموية. كفانا هجرة وتهجيرًا، كفانا قتلًا وتدميرًا، وكفانا تدخلات دولية وإقليمية تعكر صفو الداخل اللبناني. يكفي أن نكون أدوات في يد الدول، يكفي من زرع الفتن. فالفتنة والمفتن هما وجهان لعملة واحدة، ونسألك، يا رب، أن ترحمنا من هذه الفتن.
فلنتحد جميعًا، ولنرفض كل ما يفرقنا، ولنبنِ مستقبلًا يليق بكرامة وطننا وشعبنا.