يخيّم القلق الكبير على الجنوب في هذه الأيام نتيجة كلّ ما يحدث، فالعدوان الاسرائيلي على أراضي وقرى الجنوبيين ترك في داخلهم غصّة كبيرة، المعركة اليوم حقيقة مختلفة عن كلّ المرّات السابقة، هي معركة من أجل البقاء في الأرض، ذاك القلق لا يبدو فقط في صوت أبناء الجنوبيين بل يصل الى أبعد من ذلك، الى تعابيرهم وهواجسهم التي يجسدونها في كلمات. سألت أحد أبناء رميش ذات مرّة مع بداية الحرب كيف الأحوال، فجاء الجواب: "سنبقى صامدين في أرضنا وباقون فيها رُغم المخاطر وأصوات القذائف والرعب فما نخشاه هو إن غادرنا ألاّ يعود لنا وطن".

الزيتون مصدر رزق

نعم، القلق اليوم مما يقوم به العدوّ الإسرائيلي كبير هو يدمّر الحجر والبشر ويعمل على محو الهويّة، التي تكمن في الصناعات المحلّية التي يتقنها الجنوبيون من الزيتون الى الخرّوب وغيره... يحترق قلب أبو ايلي حزناً وهو الذي اضطرّ الى مغادرة منزله في النبطيّة بسبب القصف المستمرّ، ويشير الى أنه "في مثل هذا الوقت من العام نحضّر أنفسنا للذهاب الى الكروم لقطف الزيتون وعصره وصنع الزيت، والمحصول الّذي ننتجه هو قرابة الـ50 "تنكة" زيت أي ما يقارب خمسة آلاف دولار وأكثر أي ما يساوي 400 دولار شهرياً هو راتب عسكري متقاعد يكفيني لأشتري أدويتي وأؤمن المأكل في حين أن أولادي يساندونني". أبو ايلي الذي اضطرّ الى مغادرة منزله الى بيروت يبكي من القهر، ليس فقط على محصول الزيتون بل على الارض التي يقصفها الاسرائيلي بالفوسفور وبكل المواد التي تدمّر وتقتل وتؤدّي الى تشوهات كبيرة".

ولرميش قصّة أخرى. إذ يشير ماهر طانيوس إبن رميش الى أن "أراضي الزيتون تتوزع في مكانين، الأول في القرية وعددها قليل، والعدد الاكبر من بساتين الزيتون هي على اطراف البلدة، وهي تقصفهم اسرائيل حالياً، وأي شخص يحاول الوصول الى أرضه يتمّ الاعتداء عليه، وبالتالي لا يسمحون لنا من الاساس أن نصل الى أراضينا"، لافتا الى أن "الناس تقطف الاراضي الموجودة بجوار المنزل، وكل ما هو بجانب القرية فقد تساقط على الارض، وللأسف هذا العام لا زيتون". يختم ماهر طانيوس بالقول "الناس في رميش تعتمد على هذه المواسم ليكون مصدر رزق لها يساعدها على الاستمرار الى جانب وظيفتها وللأسف هذا العام هو مفقود".

حرب ثقافية

لا يختلف اثنان على أن البلدات في الجنوب هي بلدات تراثيّة تتماهى مع محيطها التراثي الغني بالزيتون والعنب والتين والزعتر. ويرى مدير عام الآثار سركيس خوري أنه مشهد ثقافي يؤثّر على الهويّة اللبنانيّة، وما يقوم به الاسرائيلي اليوم عبر محو القرى اللبنانية هو عملياً حرب ثقافية، فهذه الصناعة عمرها آلاف السنين وهي متوارثة، وهذا يدلّ على أننا نسكن في هذه الأرض منذ آلاف السنين"، بالمختصر يؤكّد خوري أنها "حرب على الهويّة ويسعى الاسرائيلي من خلال التدمير الذي يقوم به أن ينزعنا من جذورنا ليقولوا إننا لم نكن هنا ولا في أيّ مرّة".

التعدّي على المستقبل

يؤكد سركيس خوري عبر "النشرة" أن "الجيوش التي كانت تهاجم لبنان لم تمحي الآثار"، لافتا الى أن "هناك مواقع أثرية معروفة وأخرى غير محفورة أو غير معروفة، وبالتالي بتدمير القرى والمواقع كالذي يحدث في صور على سبيل المثال، هنا العدو الاسرائيلي لا يتعدّى فقط على تاريخنا بل وعلى مستقبلنا أيضا لأنه يقوم بمحو معلومات لم ننبشها أصلاً لأن هناك بلدات أسفلها آثار ولم نقم بنبشها بعد".

الخوف كان مؤخرا كبيرا على قلعة بعلبك الأثريّة خصوصا وأن العدو الاسرائيلي قام بتدمير السور الروماني خارج القلعة قرب ثكنة غورو. ويشير سركيس خوري الى أنه "وحتى ولو لم يقصف الاسرائيلي القلعة مباشرة ولكنه قصف موقف السيارات خارج القلعة، وتحته آثار غير "منبوشة"، مشددا على أنه "لا يمكن تحديد حجم الضرر في القلعة ويجب أن نقوم بتقييم انشائي لنعرف ما هي الاثار على المعلم، ولكن القصف بجانبه سيؤدي الى اهتزازات وبعد ثلاثة أو اربع سنوات سنكون أمام مشاكل وقد تؤدي الى انهيارات".

التلال الأثرية

يتحدّث سركيس خوري عن التلال الأثرية، ويلفت الى أنه "وفي منطقة البقاع هناك 250 تلة أثرية. شارحا أنه "وبالاجمال كلما سمعنا ببلدة في البقاع تبدأ بتلّ يكون فيها موقع أثري وهي محمية بالقانون الدولي"، مشيرا الى أن "لبنان وقّع عدة اتفاقيات دوليّة لحماية الاثار أولها اتفاقية لاهاي في العام 1954 واتفاقية الاونيسكو في العام 1972، والاولى تتضمن بروتوكولين يسمحان بحماية معزّزة للمواقع الاثرية بمعنى إذا اعتدي عليها يتعرّض المُعتَدي لمحاكمة دولية، وبالمقابل نحن كدولة نتعهّد بعدم استعمال هذه المواقع لغايات عسكريّة".

اليوم وبعد كل القصف المُمَنهج وكل التدمير الحاصل، يتحرك لبنان باتجاه المجتمع الدولي ليطالب بتصنيف 34 موقعا لتعزيز حمايتهم وفق اتفاقية لاهاي... فهل سيقف العالم وقفة حقّ في وجه تدمير الهوية والاثار الذي تقوم به اسرائيل في لبنان؟!.