أربعون يومًا لعيد الميلاد المجيد الذي تمّ فيه الظهور الأوّل لله في الجسد.

أربعون يومًا بدأناها منذ الخامس عشر من شهر تشرين الثاني، بدأناها برحلة سفر وشوق للقيا المولود الإلهيّ.

أربعون يومًا نتهيّأ فيها لنولد، من جديد، مع الربّ يسوع المسيح الذي أتى إلينا ليحرّرنا من سلطة إبليس، ويقيمنا من ثقل خطايانا المميتة التي أخذها على عاتقه حمل الأب الحنون الَّذي يبذل ذاته من أجل أبنائه.

أربعون يومًا نصوم فيها منقطعين عن الزفر والبياض ومشتقّات الحيوان كلّها آملين أن نعود إلى حالة الفردوس الأولى قبل سقوط الإنسان.

لذا، هو ليس صيامًا من ناحية الطعام فقط، بل هو جوع إلى الملكوت السماويّ، علّه يكون مشتهانا الأوّل. فالصيام ليس إماتةً بمعنى القهر والعذاب لأنّ يسوع فرَحٌ، بل هو كبْحٌ للاسترسال في الشهوات الضارّة لأنّ الأهواء كلّها مرتبطة ببعضها البعض، وتأثيرها على الجسد والنفس معًا، فشراهة الطعام ليست ببعيدة عن أهواء أخرى مسيئة للإنسان، كحبّ التملّك والأنانيّة وعبادة الذات وعدم الاكتراث بالآخرين وغيرها، وهذا كلّه نقص في المحبّة.

والصوم ليس حمية حتّى ولو كان المرء نباتيًّا في حياته، لأنّ الأساس هو عدم أكل لحم بعضنا بعضًا. هذا تمامًا ما قاله قدّيسنا العظيم يوحنّا الذهبيّ الفم وخَبِرَه الآباء القدّيسون على مرّ العصور.

ليست صدفة أن تكون لعيد الميلاد فترة صياميّة أربعينيّة مشابهة لصوم عيد الفصح لأنّ من وُلِد هو الفادي والمخلّص، وهذا ما نرتّله في خدمة الميلاد تأكيدًا لذلك، فلحْن ترتيلة «اليوم يولد من البتول، هو لحن اليوم علّق على خشبة» عينه.

الإنسان إذًا، في الفترة الأربعينيّة التي تسبق يوم الميلاد المجيد، يقوم بمراجعة حياته وتصرّفاته وأقواله ومكنونات قلبه على ضوء الإنجيل، ليعلن قولًا وفعلًا، جسدًا وروحًا: «المَسِيحُ وَلِدَ فَمَجِّدوهْ، المَسِيحُ أَتَى مِنَ السَّمَواتِ فَاسْتَقبِلوهْ، المَسِيحُ عَلى الأرضِ فَارْتَفِعوا».

هذه المقاطع الثلاثة فيها معان لاهوتيّة عميقة جدًّا. ما نلاحظ أوّلًا فيها، هو تكرار اسم المسيح ثلاث مرّات. كيف لا وهو العيد؟!. وهذا ما يدعونا، لاحقًا في المقالة، إلى أن نتعرّف عن كثب على شخصيّة المسيح ومن هو.

قبل ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرقم أربعين له معانيه وحضوره في الكتاب المقدّس. فالطوفان في عهد نوح كانت مدّته أربعين يومًا (تكوين 7: 17). وبعد ذلك بدأ عهد جديد (تكوين 9: 9). والشعب اليهوديّ مكث في البريّة أربعين سنة بعد عبوره البحر الأحمر وخروجه من مصر، وكانت مرحلة استباقيّة للتوبة وإعلان أنّ الله هو المعبود الوحيد ولا إله غيره استعدادًا للارتقاء إلى أورشليم السماويّة. كذلك النبيّان موسى وإيليّا صاما أربعين يومًا (خروج 34: 28، ملوك الأوَّل 19: 8). وفي العهد الجديد صام الربّ أربعين يومًا (متَّى 4: 2) وأعطانا عمق خبرة الصوم وثمارها في حياة الإنسان في ثلاثيّة مقدّسة: الأولى: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ» (متَّى 4: 4)، والثانية: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ» (متَّى 4: 7)، والثالثة: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متَّى 4: 10).

ويُطرح السؤال: كيف يمكننا تحقيق هذه الثلاثيّة؟ يكمن الجواب أيضًا في ثلاثيّة متكاملة لا تتجزّأ وهي تشكّل عبورًا قياميًّا: معرفة من هو صاحب العيد، الإيمان به، الاتّحاد به.

نبدأ بِمَن هو يسوع؟ هو الكائن الحيّ ومعطي الحياة، واسمه يعني «يهوه يشع» أي «الكائن الذي يخلِّص»، وفعْل الكينونة هو فعل الحياة، لهذا هو الحياة كما قال لمرثا: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" (يوحنا 25:11)، وهو الإله الكائن قبل الدهور، وهذا ما شكّل صدمة لليهود بقوله لهم: " «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ». (يوحنا 58:8). وهو ابن الله، تمامًا كما بشّر الملاك جبرائيل مريم العذراء: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لوقا 35:1). وما قاله يسوع عن نفسه لا أحد يجرؤ على التفوّه به «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» ( يوحنا 30:10) وأنّه في الآب والآب فيه. وعلى هذا الأساس دانه اليهود لأنّه جعل نفسه إلهًا ومعادلًا لله (يوحنا 18:5). يسوع واحد في الجوهر مع الآب والروح، وثلاثتهم إله واحد. لهذا نقول عن يسوع بأنّه مولود غير مخلوق، أي كان إلهًا قبل أن يتجسّد، وطبعًا بقي إلهًا بعد أن وُلِدَ من مريم العذراء، وبعد صيرورته بشرًا صار إلهًا وإنسانًا في الوقت عينه من دون أي امتزاج أو إلغاء الطبيعة الإلهيّة للبشريّة أو العكس.

هذه الولادة الإلهيّة الفريدة في تاريخ البشريّة كلّها تنبّأ عنها إشعياء النبي بقوله: "يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»" (إشعيا 14:7)، وتفسير كلمة عمّانوئيل هو الله معنا.

أمّا بخصوص الإيمان بالربّ، فيكمن في إقامة علاقة مباشرة معه. هو إله شخصيّ وأعلن عن نفسه لنا وهو حاضر دائمًا للُقيانا. هو قام بالخطوة الأولى بالمجيء الينا، ويكفي أن نقابله بخطوة مشابهة ليكتمل اللقاء. عندها يصبح إيماننا يقينًا. هذا ما عاشه كلّ من عرفه. هذه المعرفة تولّد عشقًا ينمو بالصلاة والعمل بكلمة الله المحيية ليصبح تسليمًا للربّ واتّحادًا أبديًّا لا يلغيه شيء.

هذا كلّه لنضع نصب أعيننا دائمًا أن: "يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ." (إشعياء 6:9).

نعم هذا هو الميلاد، الله أحبّنا وأتى إلينا وهو الإله قبل الدهور.

إلى الربّ نطلب.