لا شكّ أنّ الظروف التي أحاطت بزيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين هذه المرّة إلى لبنان، لا تشبه الظروف التي أحاطت أيًا من زياراته السابقة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان قبل نحو شهرين، بل ربما منذ بدء الاشتباكات بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي عندما فتح الحزب ما أسماها "جبهة الإسناد" في الثامن من تشرين الأول 2023، دعمًا للشعب الفلسطيني في قطاع غزة في وجه الحرب الإسرائيلية ضدّه.
وعلى الرغم من أنّ الزيارة جاءت على وقع تصعيد ميداني استمرّ على جانبي الحدود، من دون انقطاع، بل بعد رفع مستوى الاستنفار إن صحّ التعبير، بعد إدخال إسرائيل العاصمة اللبنانية بيروت في قلب الاستهداف بشكلٍ يختلف عن الضربات "المحدودة" التي سُجّلت فيها سابقًا، فإنّ الأجواء كلّها أوحت بأنّ اتفاق وقف إطلاق النار بات أقرب من أيّ وقت مضى، وأنّ الأميركيين مصرّون على إحراز تقدّم حقيقي، وفي أقرب وقت ممكن.
ولعلّ هوكستين نفسه عكس هذه الأجواء بتصريحاته إلى الصحافيين في اليوم الأول من زيارته، حين تحدّث بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، عن "فرصة حقيقية للوصول إلى نهاية هذا النزاع"، مشيرًا إلى أنّ "الحلّ أصبح قريبًا من أيدينا، والنافذة مفتوحة الآن"، ولو أنّه عكس في الوقت نفسه، وجود بعض "الثغرات"، أو ربما "الفوارق والفراغات" كما وصفها، ينبغي تضييقها من أجل ضمان الوصول إلى اتفاق، وعدم تعطيله في اللحظة الأخيرة.
قد تكون مثل هذه الأجواء الإيجابية مفيدة، ومريحة ربما للبنانيين، الذين يريدون وضع حدّ للمأساة المستمرّة، وقد تعبوا من المجازر اليومية، فضلاً عن تبعات النزوح، لكنّها لا تحجب سلسلة من علامات الاستفهام، فهل هي حقيقية فعلاً أم وهمية في مكانٍ ما، وما هو موقف إسرائيل الحقيقي منها، وقد تفاوتت الآراء داخلها من "مبدأ" الاتفاق في اليومين الماضيين، وما الذي يضمن ألا يكون ما يجري مجرد "خديعة"، ضمن تكتيك إسرائيلي متمدد من غزة إلى لبنان؟!
الأكيد بحسب ما يقول العارفون، إنّ ما حمله هوكستين معه هذه المرّة كان مختلفًا عن كلّ المرات السابقة، بل إنّ مجرّد وصوله إلى بيروت بعث برسالة إيجابية، وهو الذي سبق أن ألمح إلى عدم عودته، باعتبار أنّ الملف سيؤول إلى شخص آخر بعد الانتخابات الأميركية، والأكيد أيضًا أنّ طبيعة النقاشات التي أجراها انطوت على "جدية" لم تُرصَد سابقًا، حتى إنّ المحسوبين على رئيس مجلس النواب نبيه بري وصفوا اللقاء معه بـ"الأكثر جدية" على الإطلاق.
وفقًا لهؤلاء، فإنّ "الإيجابية" المسجّلة على خط حراك هوكستين، تنطلق من ثابتتين أساسيتين، أولاهما الموقف الأميركي "المتقاطع" بين إدارتي الرئيس الحالي جو بايدن والمقبل دونالد ترامب، على ضرورة إنهاء النزاع في لبنان في أقرب وقت ممكن، علمًا أنّ هذا "التقاطع" تحديدًا هو الذي دفع هوكستين إلى العودة للبنان في مسعى "أخير"، بعدما كان أوحى أنّ مهمّته انتهت، بعد إفشالها قبيل الانتخابات الأميركية الأخيرة.
وبحسب العارفين، فإنّ هوكستين أتى هذه المرّة بخيار "شبه وحيد" وهو النجاح، ولو أنّ فشل المهمّة يبقى مطروحًا، وهو يستند في ذلك إلى أنّ الرئيس جو بايدن يريد تسجيل "إنجاز" في لبنان قبل مغادرة البيت الأبيض، وهو الذي عجز عن حقن الدماء في غزة، في حين أنّ الرئيس دونالد ترامب يريد أن يصل إلى البيت الأبيض، وقد انتهى الأمر، وهو ما سبق أن أبلغه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة.
أما الثابتة الثانية التي تعزّز الإيجابية فترتبط وفق العارفين، بالموقف اللبناني "المَرِن والليّن"، لكن تحت سقف "السيادة اللبنانية"، حيث تبيّن أنّ وقف إطلاق النار هو مطلب لبناني ثابت، يتقاطع عليه الجميع، بما في ذلك "حزب الله"، ولكن من دون القبول بما من شأنه انتهاك السيادة، خصوصًا على مستوى الحديث عن "حرية حركة" لإسرائيل، علمًا أنّ هذا بالتحديد هو أساس الملاحظات التي تقدّم بها لبنان، والتي يؤكد أنّها غير جوهرية، وقابلة للتطبيق.
لا تعني هذه "الجدية" في الموقفين الأميركي واللبناني، أنّ الاتفاق قد أصبح "بحكم المُنجَز" فعلاً، فالعبرة بالخواتيم بحسب ما يقول العارفون، الذين يلفتون إلى أنّ الكرة تبقى في ملعب إسرائيل، التي ستحدّد الاتجاه النهائي للأمور، فإما تسهّل حصول الاتفاق، خصوصًا أنّ الملاحظات اللبنانية ليست "جوهرية"، وإما تعرقله بذريعة "التعديلات"، ولو أنّها تدرك أنّ حصولها على ما هو دون ذلك قد يكون متعذّرًا إن لم يكن مستحيلاً.
هنا، يتحدّث المطّلعون عن تفاوت في وجهات النظر داخل إسرائيل، بل ربما داخل الحكومة الإسرائيلية اليمينية نفسها، إذ ثمّة من يعتبر أنّ إسرائيل يجب أن تدفع باتجاه الاتفاق، بعدما فعلت أقصى ما تستطيع فعله، حتى أضحت ضرباتها بالعموم، حتى في قلب العاصمة بيروت، "عشوائية" لا "دقيقة"، وبالتالي فإنّ من مصلحتها الذهاب إلى اتفاق يحقّق لها ما عجزت عن تحقيقه عسكريًا، خصوصًا على صعيد هدف الحرب الأول، أي إعادة المستوطنين إلى بيوتهم.
في المقابل، ثمّة في داخل إسرائيل من يعتبر أنّ الاتفاق لم يحِن وقته بعد، باعتبار أنّ "حزب الله" لا يزال يتمتع بالقوة العسكرية، وبالتالي فهو قد يشكّل "هدية مجانية" له، ولو أعاد تموضعه العسكري في الجنوب، كما فعل أساسًا بعد حرب تموز 2006. ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ المطلوب إنهاء الوجود العسكري للحزب وتجريده بالكامل من السلاح قبل البحث في أي اتفاق فعلي، يمكن أن يتسلّل منه للحديث مرة أخرى عن "انتصار" رغم كل الخسائر.
وبين هذا وذاك، تبقى العين على الموقف الإسرائيلي النهائي من المسودّة الأميركية، فهناك من يقول إنّ هذه المسودّة كانت منسّقة مع الإسرائيليين، وإنّ مجرد انتقال هوكستين من بيروت إلى تل أبيب يعني التوصل إلى أرضية مشتركة، لكن هناك من يقول في المقابل أيضًا، إنّ إسرائيل لن تتردّد في التنصّل من الاتفاق في اللحظة "الحاسمة"، وهو تكتيك سبق أن اعتمدته في غزة أكثر من مرة، وفي لبنان أيضًا قبيل اغتيال السيد حسن نصر الله.
الأجواء إذاً إيجابية، والوضع جيّد، كما قال رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن ذلك لا يمكن أن يكون دافعًا للنوم على حرير، انطلاقًا من المقولة الشهيرة التي يردّدها بري باستمرار: "لا تقول فول حتى يصير بالمكيول". فالكرة في ملعب إسرائيل، التي تصرّ على مبدأ "التفاوض بالنار"، وطالما أنّها كذلك، تبقى كل السيناريوهات والاحتمالات واردة، بما في ذلك الانقلاب على الاتفاق في أيّ لحظة!.