هَذا يِبغيهِ جِزءاً مِن بَرِّهِ، وَبَرُّهُ ما كانَ يوماً حَقيقَةً تاريخِيَّةً بَل إصطِناعَ تَوَهُّمٍ لإيديولوجِيَّةٍ فيها مِنَ السوريالِيَّةِ ما في السوريالِيَّةِ مِن تَفَلُّتِ جُنونٍ، إنهَزَمَت في بؤسِ الإفراطِ في تَخَلُّفِ اللابُطولَةِ، فَصارَت شَطَطَ ظَواهِرَ مَعتوهَةٍ.

وَهَذا يَبغيهِ مُلحَقاً لِميعادٍ جُغرافِيٍّ ما كانَ يَوماً حَقيقَةَ وَعدٍ إلَهِيٍّ بَل إصطِناعَ تَوَهُّمٍ لإيديولوجِيَّةٍ فيها مِنَ الوِحشَةِ ما في التَوَحُّشِ مِن تَفَلُّتِ إختِبالٍ، أنهَزَمَت في شَطَطَ الإفراطِ في دوغماتِيَّاتِ التَصارُعِ، فَصارَت بؤسَ ظَواهِرَ مُهلِكَةٍ.

لا! لبنانُ مُذ كانَ، كانَ أرضاً وَقَضِيَّةً، فِكرَةً وَروحاً، كَياناً لِوَعيٍ.

لا لبنانُ جِزءاً مِن بَرِّ شامٍ، وَهو كانَ قَبلَ أن تَكونَ شامٌ بِآلافٍ مِن سَنَواتٍ، وَلا هو مُلحَقاً بِأرضِ ميعادٍ، وَهي ما كانَت إلَّا إنسِكاباً أُسطورِيَّاً لِإغراقِ اللهِ بأُلوهَةٍ زائِفَةٍ مِن قِبَلِ سُلطَةٍ كَهنوتِيَّةٍ إستَحكَمَت قَبضَةً لِتَتَحَكَّمَ بِرِقابِ عِبادٍ. كَيفَ لا، وَلبنانُ باني مَدائِنَ ذاكَ البَرَّ مِن أروادَ وأوغاريتَ الى حِمصَ وَتَدمُرَ وَدِمَشقَ وَتَوابِعَها...؟ كيفَ لا، وَلِلبنانَ كانَ جَليلُ الأُمَمِ، وَتَوابِعُهُ مَدائِنُ يَهودِيَّتِهِ وَسامِرَتِهِ بَنو لبنانَ بُناتُها وَلَهُمُ. ألَيسَ إبراهيمُ، أبُ المؤمِنينَ، شَريدُ اورشَليمَ، ألبَناها الفينيقِيُّونَ-الُلبنانِيُّون هَيكَلَ-سَلامٍ/شاليم، يَستَغيثُ بِهِمِ: "أنا نَزيلٌ وَمُقيمٌ عِندَكُمُ، أُعطوني مِلكَ قَبرٍ عِندَكُمُ فَأدفُنَ مَيِّتي (زَوجَتَهُ سارَة) مِن أمامِ وَجهي"؟ (سِفرُ التَكوينِ 23/4).

مِن بَرِّ شامٍ الى أرضِ ميعادٍ، قَبائِلُ، حُفناتُ رُعاعٍ، تَقاتَلَت على جُغرافيَةٍ لَيسَت لَها أصلاً بَل لَهُ، لبنانُ. وَهي ما إستَحوَذَتها إلَّا إستِلاباً مِنهُ، لبنانُ. تِلكَ نَسَبَتها لِشُذَّاذِها، وَهَذِهِ لإلَهِها.

لا! لبنانُ مُذ كانَ، كانَ الميعادَ والمَوعِدَ والوَعدَ. واقِعاً لِمَصيرٍ وَمَصيراً لِواقِعٍ. العَطِيَّةَ لِمَقاييسِ الزَمَنِ بِما هو رَفدٌ لِأصالَةِ المَعرِفَةِ بالإيمانِ الحَقِّ والعَقلِ الحَقِّ. لِتَفَرُّدِ التاريخِ كَما لِخُصوصِيَّةِ جُغرافيا التاريخِ. لِأجلِ مَنأى الخَلقِ هذا، ألمِنهُ إنطَلَقَ لبنانُ وَبِهِ إستَزادَ، إختيرَ مِن اللهِ بَدءاً ليَعيَ ذاتَهَ... مِنَ الحَدسِ الى إنوِجادِ الحَقيقَةِ. في هذا التَفاعُلِ المُتُنَوَّعِ، في هذا التَآلُفِ بَينَ المِثالِ والصورَةِ والواقِعِ، يَتَسامى لبنانُ تَجَوهُرَ الحَياةِ لِأنَّ صِفاتَهُ مِن صِفاتِ اللهِ. وَإن غَدا اللهُ مَسألَةُ تُبحًثُ وَتَتَعَقَّدُ وَتُستَغوى بِإيديولوجِيَّاتٍ مُتَضارِبَةٍ وَمُتَلاغِيَةٍ، فإنَّ اللهَ لم يَدَع نَفسَهُ بِلا شاهِدٍ لَهُ، وَلِذَلِكَ إختارَ لبنانَ شاهِدَهُ لِحَقيقَتِهِ. هو بُرهانُه وَدَليلُهُ.

إعتِرافُ الصَيرورَةِ

أيَكونُ لبنانُ غَيَّرَ غايَةَ اللهِ؟ بَل لبنانُ-تَفَرُّدُ-الخُصوصِيَّةِ، بِمُآلَفَةِ التَوازُنِ والإتِّزانِ، حَرَّرَها مُسبَقاً مِن أيِّ تَسَلُّطٍ عَليها مِن قِبَلِ إلتِماسِ دينٍ أو تَضارُبِ أديانٍ، وَمِن أيِّ تَلاغٍ لَها مِن قِبَلِ أقنِعَةِ حُضَيرَةٍ أو إصطِراعِ حَضاراتٍ.

قُلّ: لبنانُ لِلإنسانِ كَما للهِ إعتِرافُ صَيرورَتِهِما المُشتَرَكَةِ. وَباطِلٌ، كُلُّ إرتِجالٍ لِقِوى الإحتيازِ والهَيمَنَةِ، مَهما تأدلَجَت بِتَوَسُّلِ القُوَّةِ وَتَسَوُّلِها.

تِلكَ قُوَّةُ لبنانَ، وَبالدَرَجَةِ الأولى في داخِلِهِ: بَعثُهُ هَذا. بِهِ وَلَهُ، يَدينُ الوجودُ لِلجَوهَرِ والجَوهَرُ لِلوجودِ. ألَيسَ المَسيحُ المَسيحُ، في ذُروَةِ لُبنانَوِيَّتِهِ هَتَفَ: "مَلَكوتُ اللهِ داخِلَكُمُ" (لوقا 17/21)، كَمَن يَدمَغُ بِمِلئِهِ نِداءَ إيلَ، الإلَهِ-الأبِ الُلبنانيِّ، الى الإلَهَةِ الأُمِّ: "إزرَعي في رَحَمِ الأرضِ، السَلامَ"؟

أجَل! لبنانُ مَحَكُّ المُماهاةِ الدائِمِ مَعَ مواجَهَةِ الخَطَرِ لَيسَ مُصطَنَعَ تَقاسُمٍ وَلا صَنيعَةَ إستِعمارٍ، وَلَن يَكونَ مُستَتبَعَ تَولِيَةِ فِقهٍ وَلا هَرطَقَةَ أُصوليَّةٍ. هو المُقَدِّسُ تاريخَ الجُغرافيا، وَنَقيضَ مَن طَمَعُهُ أخذَهُ مُراوَغَةً جُزءاً أو مُلحَقاً، وَحدَهُ المُحَرّرُ مِن حُرمِ المُدَنَّسِ.