تطلُّ علينا الأيَّام الثلاثة الأولى من شهر كانون بأنبياء ثلاثة، وهم ناحوم (1) وحبقوق (2) وصوفُنيا (3)، كأنَّه بذلك يقول لنا إنَّ الشهر الميلاديَّ هو شهر تحقيق النبوءات عن مجيء الله إلينا وصيرورته إنسانًا، والمخلِّص هو عزاؤنا، أمَّا اقترابنا إليه فيكون كما اقترب هو إلينا، أي بالتواضع الأقصى، وهذا يتمُّ حصرًا بإخلائنا ذاتنا بتوبة عميقة وحقيقيَّة لنولد معه من جديد، ونميت بَهيميَّتَنا في المذود، مستقبلين الربَّ الَّذي هو العيد.

بالعودة إلى الأنبياء، يأتي اسم ناحوم من فعل التعزية، ويعني «المعزِّي». كتب سفره في القرن السابع قبل الميلاد، ‏تنبَّأ فيه بخراب مدينة نينوى الَّتي سبق أن تابت على يد يونان النبيِّ قبل قرن تقريبًا، ولكن سرعان ما عادت وسقطت في شرورها من جديد، لذا وصفها ناحوم قائلًا: «ويل لمدينة الدماء. كلُّها ملآنة كذبًا وخطفًا. لا يزول الافتراس» (ناحوم 3: 1). وبعد أن يتنبَّأ عن خرابها واجتياحها وعدد القتلى فيها إذ ملأها الفساد، أصبحت مسخرة للناظر إليها وعبرة لمن يريد أن يعتبر: «ويكون كلُّ مَن يراكِ يهربُ منكِ ويقول: خربت نينوى، مَن يرثي لها؟ من أين أطلب لكِ مُعَزِّين؟» (ناحوم 3: 7). ووصف رؤساءها بالجراد الَّذي يلهم كلَّ خضار أمامه ولا يعرف الشبع (ناحوم 3: 17). ولأنَّ شرَّها لم يرحم أحدًا، فرح العالم بسقوطها، فقال: «كلُّ الَّذين يسمعون خبركَ يصفِّقون بأيديهم عليكَ، لأنَّه على مَن لم يمرَّ شَرُّكَ على الدوام؟» (ناحوم 3: 19). للأسف هذه نهاية كلِّ مَن يتمسَّك بالشرِّ ويقيم حلفًا مع الشيطان.

أمام هذا السواد كلِّه تكلَّم ناحوم على المخلِّص المعزِّي: «هوذا على الجبال قدَما مبشِّرٍ مُنادٍ بالسلام!» (ناحوم 1: 15). والجميل في هذه الآية تتمَّتُها: «عيِّدي يا يهوذا أعيادكِ. أَوْفي نذُورَكِ، فإنَّه لا يعود يعبر فيك أيضًا المُهلِك. قد انقرض كلُّه» (ناحوم 1: 15). يشرح هنا القدِّيس أثناسيوس الكبير، أنَّ المهلك هلك، والقديم انتهى، ولا عودة إلى الوراء بعد قدوم المخلِّص. فكانت المدينة تضمُّ يهودًا مسبيِّين، والآن حان الوقت ليعودوا إلى نبوءاتهم وكتبهم والعمل بوصايا الله. ويكمل قدِّيسنا بأنَّ مشهد سقوط الشرِّير في نينوى هو سقوط الشيطان الَّذي حرَّرنا الربُّ من سلطته. كان هذا استباقًا لخلاص الربِّ لكلِّ مَن يؤمن به، لهذا فالأصحُّ القول: «المجد للَّه في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي أناسٍ المسرَّةُ»، وليس «وبالناسِ المسرَّةُ»، لأنَّ من يريد الصلاح يفرح بالمخلِّص. خلاصه مجَّانيٌّ ولكن يبقى علينا أن نقبله.

النبيُّ الثاني هو حبقوق (ق 7 ق م). من معاني اسمه «العناق» و«الاحتضان»، وأيضًا هناك معنًى قد يبدو غريبًا وهو «الحضن الفارغ» وأيضًا «الفراغ المحتضن».

المعنيان الأخيران إيجابيَّان جدًّا بحسب تفسير الآباء القدِّيسين، وبما أنَّ محور إيماننا كلِّه هو الربُّ، فكلُّ تفسير لاهوتيٍّ مرتبط به. فالأوَّل يشير إلى أنَّ حضن الربِّ غير مشغول عنَّا إطلاقًا، لا بل شغله الشاغل نحن، وهو دائمًا جاهزٌ لاحتضاننا. يذكِّرنا هذا باتِّكاء القدِّيس يوحنَّا الإنجيليِّ على صدر يسوع (يوحنَّا 21: 20) وهناك أيقونة جميلة جدًّا تصوِّر هذا المشهد الرائع. أمَّا الثاني فيشير إلى الرحمة والاهتمام والمحبَّة والرفق والمرافقة والحنان وبذل الذات، وهذا كلُّه فعله الربُّ بمجيئه إلينا ويفعله إلى أبد الآبدين.

هذا على مستوى اسم حبقوق، أما سفره فيخبرنا مناشدة المظلوم للربِّ ليخلِّصه من الظلم، والربُّ يحذِّر الظالم بهلاكه إن لم يتب: «ويل للباني مدينةً بالدماء، وللمؤسِّس قريةً بالإثم!» (حبقوق 2: 12)، كما يتنبَّأ حبقوق عن مجيء الربِّ فيقول: «الله جاء من تِيمَان، والقدُّوس من جبل فاران. جلاله غطَّى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه» (حبقوق 3: 3). وهذا ما نرتِّله في زمن الميلاد المجيد: «إنَّ حبقوق لمَّا سبق فعاين حضورك من البتول أيُّها الفادي، هتف مندهشًا، إنَّك من التيمن تأتي متجسِّدًا، لتعيد دعوة آدم المنفيِّ» (24 ك 1- الأودية الرابعة). فقد أتى الربُّ ليعيدنا إليه بعد سقوطنا، فكلُّنا آدم. وقد أجاب يسوع اليهود عندما طلبوا آية منه، بأنَّ الأمم سيسبقونكم إلى الخلاص (متَّى 12: 42 – لوقا 11: 31).

كذلك يخبرنا حبقوق عن أمرين مهمَّين جدًّا وهما إله بال والتنِّين. نقرأ عنهما في الترجمة السبعينيَّة باللغة اليونانيَّة للعهد القديم (حوالي ق 3 ق م) وتحديدًا في تتمَّة نبوءة دانيال النبيِّ المأخوذة عن نبوءة حبقوق. حيث دانيال أبطل عبادة الصنم "بال" وكشف تزوير كهنة الوثنيِّين، وهذا صورة عن بطلان الآلهة المزيَّفة، لأنَّ الإله الحقيقيَّ آتٍ. أمَّا المقصود بالتنِّين فهو الحيَّة (Δράκων drakon)، الَّتي قتلها دانيال فرموه في جبِّ الأسود، وفي اليوم السادس أتى ملاك بحبقوق إليه، ومعه طعام له. وأخرج الملك دانيال بعد أسبوع فكان حيًّا وأهلك الوثنيِّين. كان هذا أيضًا مشهدًا لمجيء المخلِّص وإنقاذنا من فكِّ الشيطان.

كذلك تخاطب الكنيسة حبقوق النبيّ في التسبحة الرابعة قائلةً: "لتنازل الكلمة يا حبقوق تفوّه"، فيخاطب حبقوق الرّب بدوره مصليًّا:"يا رب قد سمعت خبرك فجزعت. يا رب عملك في وسط السنين احيه. بين حيوانين تُعرف (الترجمة السبعينيّة) وعند اقتراب السنين تُشتهر، وعند حضور الوقت تظهر" (حبقوق 2:3).

تذكّرنا نبوءة حبقوق بآية إشعياء النبيّ حول الثور والحمار (إشعيا 3:1).

النبيُّ الثالث هو صُفُنيا (ق 7 ق م) ويعني اسمه «الله يستر» أو «يكنز». يتكلَّم النبيُّ عن الدينونة والتوبة وافتقاد الله لخطايا أورشليم. كذلك لافت ما قاله: «لأنَّ يوم الربِّ قريب. لأنَّ الربَّ قد أعدَّ ذبيحة» (صفنيا 1: 7). فالذبيحة الحيَّة هي الربُّ الَّذي أبطل الذبائح الحيوانيَّة الَّتي كانت تُقَدَّم في الهيكل، وكانت الخرفان يجلبونها من بيت لحم حيث كانت ترعى.

وينهي صفنيا نبوءته بقوله: «الربُّ إلهك في وسطك جبَّار. يخلِّصُ» (صفنيا 3: 17). وهذا ما ننتظره نحن «المخلِّص»، فقد وصلت كلُّ النبوءات إلى خواتيمها وتحقَّقت بالربِّ يسوع المسيح.

إلى الربِّ نطلب.