"إنَّ الشِقاقَ الذي يَهزِمُ الدوَلَ لَن يَتَوانى عَنِ المَسِّ بالسَلامِ إلَّا عِندَما تَغدو بيريتَ، الضَامِنَةَ لِلنِظامِ، حاكِمَةَ الأرضَ والبِحارَ، وَعِندَما تُحَصَّنُ المُدنُ بِحُصونِ قَوانينِها التي لا تَتَزَعزَع. حاضِرَةٌ واحِدَةٌ لِكافَّةِ مَدائِنَ الأرضِ."

هوَذا الحُكمُ-الخُلاصَةُ الأعلاهُ نونوسُ دي بانوبوليسُ Νόννος ὁ Πανοπολίτης / Nónnos ho Panopolítēs، شاعِرُ الإغريقِ الأرقى، في القَرنِ الخامِسِ لِلميلادِ، في مَلحَمَتِهِ الشِعرِيَّة المُطَوَّلَةِ: الديونيزياكَ Διονυσιακά / Dionusiaká (الكِتابُ XLI، الأبياتُ 388-398).

عقلانِيَّةُ شاعِرٍ رَفَعَت بَيروتَ الى هُنَيهَةُ إرتِباطِ الزَمَنِ الإنسانِيِّ بِمَساحةِ أرضِ البَشِرِ: وأيُّ غَلَبَةٍ؟ القيامِةُ على كُلِّ مَوتٍ؟ بَلِ الحَقُّ على اللاحَقِّ. الحَقيقَةُ على إفنائِها بالشِقاقِ. بالإبادَةِ: بالهَزيمَةِ.

هوَذا الحُكمُ-الخُلاصَةُ ألفَصل نونوسُ بِهِ بَينَ ما قَبلَ بَيروتَ وَما بَعدَها. ما بِدونَها وَما بِها وَمَعَها.

وَحدَها بَيروتُ شَريعَةُ العالَمِ. هي أكثَرُ مِن غَوصٍ فِكرِيٍّ في القانونِ، تَرجَمَةِ الحَقِّ الى إيمانٍ وَعَلاقَةٍ وَصَونٍ. هي إنبِعاثُ العَقلِ مِنَ الإرادَةِ بِكَشفٍ غَيرَ قابِلٍ لا لِلـتَجزِئَةِ وَلا لِلإنتِهاكِ. هي يَقينُ المَنطِقِ غَيرَ المُدنَى مِنهُ لا بالشَكِّ وَلا بالتَعرِيَةِ. بِها وَحدَها المُجابَهَةُ الكُبرى، في قَلبِ التَصارُعِ الأكثَرَ دَمَوِيَةٍ على الأرضِ والبِحارِ. ذاكَ التَصارُعُ التائِقُ تَكريسَ ذاتِهِ مَنطِقَ الأزمِنَةِ وَمَساحاتِ الغَلَبَةِ لِلأقوى فَتكاً والأشَدَّ عُنفاً والأعتى هَولاً. ذاكَ التَصارُعَ المُنًصِّبَ باعثَهُ مالِكاً لِعوالِمَ البأسِ وَما عَلَيها، مُتَمَلِّكاً إستِشفافَ مَقاييسَ الإزدِراءِ والإستِعلاءِ والهَتكِ و...التَأبُّدِ بالعَدائِيَّاتِ المَفروضَةِ بَديهِيَّاتِ وبِجَرائِرَ المَعصياتِ.

أمَحكَمَةٌ لِلعَدلِ مُتَعَولِمَةً، هي بَيروتُ؟ إذ هي إنتِصارُ ضَمانَةٍ بِوَجهِ تَماديَ إندِحارِ السَلامِ المُشَتَّتِ في تَراميَ الَلعَناتِ، فَهي لا مالِكَةً بَل مَلِكَةً. حَدُّ الفَصلِ بَينَ السُلطَةِ واللاسُلطَةِ. بَينَ التَحَرُّرِ والإستِعبادِ. بَينَ الخَلاصِ والسَقَطاتِ. أكثَرُ مِن تَوقٍ لِقانونٍ دوَلِيٍّ يُرسي نِظاماً دوَلِيَّاً بِوَجهِ لاعَدالَةِ اللانِظامِ العالَمِيِّ المُتُفَشِّي تَشَفِيَّ سَيطَرَةٍ وَتَعَنُّتِ تَفَسُّخاتٍ وَمُجاهَراتِ تَلاغِيَ.

أتَنقِيَةُ إنسانِيَّةِ البَشَرِ مِن نَعي الإنسانِيَّةِ بِكِفاياتِ الظُلمِ، هي بَيروتُ؟.

المُجاهَرَةُ بِقَناعَةٍ

بَيروتُ الشَريعَةُ مُجاهَرَةٌ حَتماً بِقُدسِيَّةٍ. وإن لَم تُذكَر بالإسمِ في خُلاصَةِ نونوسَ، فَهيَ مُشبَعَةٌ بِها. كَيفَ لا، وَحِصنُ قَوانينِ بَيروتَ سيادَةٌ أقوى مِن مُجَرَّدِ تِقَنِيَّاتٍ تَغُصُّ بِشُحناتِ كِبرياءِ. إذ قِوامُها السَلامُ، وَهو غايَتُها على إمتِدادِ مِلءِ الزَمَنِ، فَهيَ أولَوِيَّةُ الجَوهَرِ على ماهِيَّاتِ الوجودِ.

شَريعَةُ بَيروتَ قَناعَةٌ حَقَّاً بِقُدسِيَّةٍ. وإن لَم تُشرَح بالمَضمونِ في حُكمِ نونوسَ، فَهي فَوحُها مِنها. كَيفَ لا، وَحِصنُ قَوانينِ بَيروتَ سيادَةٌ لا تَتَزَعزَع، أفعَلُ مِن مُجَرَّدِ نِسبِيَّاتٍ تُضَيِّقُ الخِناقَ على مَنظوماتِ أخلاقِيَّاتٍ. إذ قِوامُها مَجدٌ، وَهو سَبيلُها على إمتِدادِ مَساحاتِ المَلءِ، فَهيَ تَناميَ الجَوهَرِ فَوقَ خَواءِ الوجودِ. القابِعِ خَراباً إثرَ خَرابٍ، لِفَناءٍ بَعدَ فَناءٍ... وَقَد إنتَهى إنسانُهُ مادَّةً وأداةً يُتَخَلَّصُ مِنهُ لِعَدَمِ جَدواهُ. لِذَنبِ إستِئهالِ الإفناءِ.

لبنانُ بيروتَ مُجاهَرَةٌ بِقَناعَةِ شَريعَةٍ هي تَكريسٌ لِحُقوقِ الإنسانِ وَحُقوقِ اللهِ، إذِ السَلامُ إرسالِيَّةُ الإنسانِ وإرسالِيَّةُ اللهِ. قُلّ: لِحُقوقِ اللهِ التي هي حُقوقُ الإنسانِ والعَكسُ بالعَكسِ... لاسيِّما حينَ يَنتَهيَ الأمرُ بِالأرضِ وَسَمائِها، وَبِالبِحارِ وَسَمائِها، الى الإعراضِ عَنِ الإنسانِ واللهِ مَعاً، بِتَسَلُّطِ الأوَّلِ على الثانيَ، مُبَرِّراً أولَوِيَّتَهُ بِقَهرِ مَسرى الروحِ في الجَسَدِ والدَمِ في العُروقِ.

أبِقَهرِ مَحروسِيَّةِ الإنسانِ للهِ إنتِصارُ الإنسانِ على ظُلُماتِ عُصورِهِ؟.

هو لبنانُ بِبَيروتَهُ، المُنطَلِقَةِ حَياةً، حارِسُ اللهِ والإنسانِ مِن وَصَماتِ العارِ المُتُبادِلَةِ.