على الرغم من أنّ الاهتمام لا يزال منصبًّا على "تحصين" اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل، على وقع الخروقات المتواصلة له من الجانب الإسرائيلي، بانتظار أن تعقد لجنة المراقبة المعنيّة أول اجتماعاتها في الأيام القليلة المقبلة، فإنّ الحراك السياسي "انتعش" بصورة أو بأخرى في البلاد، تحضيرًا لجلسة الانتخاب الرئاسية التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري في التاسع من كانون الثاني المقبل.
فمع أنّ "امتعاضًا" رُصِد لدى بعض الأوساط من "تأخير" موعد الجلسة، بعدما كان متوقّعًا أن يصار إلى عقدها مباشرة بعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، فضّلت أوساط أخرى مقاربة الأمر من زاوية أكثر "واقعية"، باعتبار أنّ المهلة الفاصلة عن موعد الجلسة مطلوبة من أجل التوصّل إلى تفاهم، ولو بالحدّ الأدنى، يضمن أن تكون خواتيم الجلسة "سعيدة"، بمعنى أن تفضي فعلاً إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وليس خافيًا على أحد وجود "تقاطع" بين مختلف الأطراف بوجوب أن تكون جلسة الانتخاب المقبلة، مختلفة عن كلّ سابقاتها، بعيدًا عن التكتيكات والحِيَل السابقة، التي لم تنفع سوى في "إطالة أمد" الفراغ، بل "تشريعه" بصورة أو بأخرى، في حين أن القاصي والداني يدرك أنّ وجود رئيس للجمهورية في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وتحديدًا ما بعد انتهاء مهلة الستين يومًا من مرحلته الأولى، أضحى أمرًا ملحًا ولم يعد طرفًا.
لكن أبعد من هذا "التقاطع"، ثمّة من يسأل عن مدى وجود "خريطة طريق" لإنجاز الاستحقاق فعلاً، فهل يصبح انتخاب الرئيس في التاسع من كانون الثاني حتميًا ومضمونًا فعلاً، وكيف يمكن أن يكون كذلك في وقت لم يُرصَد حتى الآن أيّ تغيير "فعلي" في المواقف، مع تمسّك كلّ فريق بمقاربته الرئاسية الخاصة، بل بمرشّحه المُعلَن، بل إنّ "بورصة المرشحين" تتّسع لتشمل أسماء ليس سرًا أنها لا تندرج سوى في خانة "التحدي والاستفزاز"؟!.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ الجميع متّفقون ضمنًا أنّ ما اختلف بالدرجة الأولى بين جلسات الانتخاب الرئاسية السابقة، وجلسة التاسع من كانون الثاني المقبل، يتمثّل في الظروف الموضوعية التي لم تعد نفسها، في ضوء المتغيّرات الدراماتيكية الكبرى التي شهدتها المنطقة برمّتها، خصوصًا بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023، والحروب التي انبثقت عنها، علمًا أنّ آخر الجلسات تعود إلى حزيران 2023، أي قبل كلّ هذه التطورات.
ولأنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتي لم تنتهِ فصولاً بعد، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصل إليه، والذي يبقى هشًا حتى إثبات العكس، شكّلت نقطة تحوّل بكل ما للكلمة من معنى، فإنّ البديهيّ أن تكون المعادلات الحاكمة للاستحقاق قد تغيّرت، بل ربما تكون قد انقلبت رأسًا على عقب، ومعها ربما المواصفات المطلوبة للرئيس العتيد، بما يؤهله لقيادة البلاد في مرحلة لا شكّ أنّها ستكون مفصلية واستثنائية.
في هذا السياق، يقول العارفون إنّ ما هو مختلف أيضًا يتمثّل في أنّ انتخاب الرئيس لم يعد مسألة "ربح وخسارة" أو حتى "نكايات" بين هذا الفريق وذاك، إذ إنّ الجميع مقتنعون بأنّ وجود الرئيس أكثر من ضروري، لمواكبة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وكل الترتيبات المرتبطة بها، داخليًا وخارجيًا، وذلك من أجل انتظام عمل المؤسسات الدستورية، بما يسمح للبلاد بالخروج من دوامة الحرب، والدخول بالتالي في مرحلة التعافي والإنقاذ.
ولعلّ المواقف التي صدرت في الأيام الماضية عن أكثر من فريق، بما في ذلك "الثنائي الشيعي"، الذي بدا أنه تخلّى عن الكثير من شروط المرحلة السابقة، بما في ذلك الحوار المرفوض من قبل قوى المعارضة، تعزّز الاعتقاد بوجود قناعة راسخة بوجوب إنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون تأخير أو إبطاء، سواء على طريقة التفاهم الوطني الذي يسعى إليه كثيرون، أو في حال تعذّره، الانتخاب الديمقراطي، الذي يبقى مطروحًا على الطاولة.
إلا أن المراقبين لسير الأمور، والمطّلعين على الكواليس، يلاحظون أنّ هذه القناعة الضمنية بوجوب إنجاز الاستحقاق، وبضرورة أن يتصاعد الدخان الأبيض من جلسة التاسع من كانون الثاني المقبل، لم تترجم حتى الآن تغييرًا "عمليًا" في المواقف، فـ"الثنائي الشيعي" لا يزال متمسّكًا، أقلّه في العلن، بمرشحه القديم الجديد رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، فيما خصومه لا يزالون على رفضهم المطلق له، فمن يحلّ "اللغز"؟!.
هنا، تتفاوت وجهات النظر، في ضوء مؤشّرات توحي بأنّ تمسّك "الثنائي الشيعي" مثلاً بترشيح فرنجية لم يعد بالتصلّب نفسه الذي كان عليه سابقًا، حتى لو وصفه رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ"عماد المرشحين"، واعتبر "حزب الله" أنّ من حقه السعي لإيصاله إلى قصر بعبدا، إذ إنّ هذه التصريحات لم تقترن، أقلّه حتى الآن، بالتهديد بفرط نصاب الجلسة كما كان يحصل سابقًا، حين كان هذا الفريق يعتبر ذلك "ممارسة ديمقراطية".
على العكس من ذلك، يُلاحَظ انفتاح من قبل هذا الفريق على البحث بأسماء أخرى يمكن التوافق حولها، وقد تكون قريبة من الجميع، حتى إنّ قياديّين من "حزب الله" أجابوا عن استفسارات بهذا الخصوص، بأنّ "لا فيتو" من جانب الحزب على أحد، وهو ما فُهِم منه ضمنًا إمكانية قبول الحزب بـ"خيار ثالث"، مع عدم استبعاد أن يخرج رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية "طوعًا" من السباق في هذه الحالة، لتسهيل انتخاب الرئيس.
وعلى الرغم من أنّ المعارضة تلوّح بتصريحاتها بخيارات قد تُعتبَر "تحديًا" للحزب، في مواجهة مرشحه فرنجية، حتى إنّ اجتماعها الأخير في معراب صُنّف "تصعيديًا" في مكانٍ ما، مع إصرار نواب على عدم الذهاب إلى مرشحين "وسطيين"، بل هناك من رمى باسم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في البازار، فإنّها تبدو هي الأخرى "منفتحة" على التوافق مع الآخرين، بما في ذلك "الثنائي الشيعي"، لو تخلّى عن فرنجية.
في النتيجة، لا تزال جلسة التاسع من كانون الثاني مفتوحة على كلّ السيناريوهات، من بينها التوافق والتفاهم، الذي ارتفعت أسهمه، ولكن أيضًا المراوحة والشلل، ولو كان خيارًا قاتلاً في الظروف الحاليّة. وبين هذا وذاك، يبقى الثابت الوحيد أنّ الرئاسة وُضِعت فعلاً على نار حامية، بعيدًا عن تلك "الباردة" التي جمّدتها طيلة فترة أكثر من عامين، لا مجال لتمديدها تحت أيّ ظرف من الظروف!.